الفنان
قصة محمود البدوى
فى ليلة من ليالى السبت دخل إبراهيم عبد المجيد وهو موسيقى محترف حانة من الحانات الكثيرة المنتشرة فى حى قصر النيل .. وكان يمسك فى يسراه العود ملفوفا .. فى كيس من القماش وفى يمناه ابنته بثينة التى كانت تقوده فى هذه الشوارع لأول مرة وقد بهرتها الأنوار ..
دخلا الحانة من بابها الصغير حابسين الخطى كأنهما لصان ..
واختارت بثينة مكانا وسطا يسمع منه جميع من فى القاعة .. وقع الأوتار ..
وجلس والدها يشد أوتار العود .. وقد احتضنه فى صدره .. وأمسك بالريشة وأخذ يدندن .. ليهىء ابنته للدور .. وفيما هو مستغرق فى عمله مقبل عليه بكليته وقف بجانبه صاحب " البار " .. وهمس فى أذنه بشىء ..
فرفع الموسيقى رأسه وسأل :
ـ لماذا ..؟
ـ الزبائن عندنا لايحبون الموسيقى العربية ..
ـ لم .. وأكثرهم مصريون ..!؟
ـ ولكنهم لايحبون هذه الموسيقى .. فتفضل بره ..
وأسقط فى يد الرجل .. فلم يحدث أن تلقى فى حياته مثل هذه الإهانة ..
وحول وجهه إلى فتاته فى صمت .. وجمع حاجته .. ونهض .. والدم يفور من كل شرايينه ..
وكان الحان مستطيلا والمقاعد صفت على الجانبين .. فتنبه الموجودون لما حدث ..
وصاح أحدهم فى صاحب البار :
ـ خليها ترقص يا خواجه باولو .. دى حلوة ..
ورنت ضحكات أنثى .. وسعال سكير .. ودفع الموسيقى ابنته إلى الخارج وصفق الباب وراءه .. بعنف .. فأخذ هذا يتأرجح على المزلاج .. ويحدث صوتا رتيبا .. لمدة دقيقة كاملة ..
ثم خيم السكون .. والكآبة على المكان .. وأصبح الدخان .. والسعال والحزن أبرز شىء فيه ..
وكان صاحب البار .. قد عاد إلى مكانه من المنصة بهدوء .. كأنه ما فعل شيئا .. ولكن كان هناك شخص يركب حركاته باهتمام منذ البداية ولاحظ كل ما حدث .. وكان هذا الشخص هو أنطونيو .. العازف على المندولين .. فى " البار " وكان قد سمع الحوار .. وأحس بمثل اللطمة على خده .. عندما رأى الموسيقى الأعمى خارجا وهو يجر ابنته والعيون تحدق فيه بفضول وحشى .. ولم يستطع أن يكتم غضبه .. فطلب كأسا من الكونياك .. وظل يشرب .. ويشرب وهو لايتحرك من مكانه .. ولاحظ الرواد أنه ترك المندولين جانبا .. وانغمس فى الشراب .. فاقترب منه صاحب البار وقال له :
ـ أعزف شيئا .. يا أنطونيو ..
ـ إنى متعب .. ليس لى مزاج الليلة ..
ـ الليلة .. مساء السبت .. والبار ممتلىء ..
ـ لن أعزف فى هذا البار شيئا آخر قط ..
ـ لماذا ..؟
ـ لقد أهنت الرجل أمامى .. وطردته ..
ـ فعلت هذا .. من أجلك .. والزبائن هنا لايحبون الصخب ..
ـ أنك لم تسمع شيئا من الرجل .. والصخب والضجيج يأتيان دائما من روادك .. لماذا لم تذكر السبب الحقيقى بصراحة ..
ـ أى سبب ..؟
ـ لماذا لاتقول بصراحة .. أنك متعصب .. وطردته .. لأنه مصرى ..
ـ أبدا .. ما فكرت فى هذا ..
ـ هذا هو السبب .. فلا تكن جبانا .. لقد حسبت أن ذلك يرضينى .. لأنى أجنبى مثلك .. ولكنك نسيت أن الفن لاوطن له .. وأن الإهانه وجهت إلى شخصى ..
ـ لم أكن أتصور هذا .. وأعتذر ..
ـ فات الأوان .. ولقد لقى الرجل الصفعة على وجهه وخرج بها ..
ـ القهاوى .. والبارات .. كثيرة ..
ـ ولكن الرجل فنان .. ولقد أهنته وشللت أنامله .. فهو لايستطيع أن يحرك أصابعه الليلة وسيذهب إلى بيته .. وينام هو وأسرته من غير عشاء .. وأنت لاتعرف البطن عندما تصرخ لأنك حقير وأعتدت أن تملأه من فضلات الزبائن ..
وتناول أنطونيو المندلين .. وخرج يدفع الباب برجله واستقبله .. الليل .. ومطر الشتاء فضم سترته على صدره ..
***
وكان الموسيقى ابراهيم بعد أن خرج من الحانة حزينا محطم القلب .. قد أحس بالتعب فلم يستطع أن يمشى طويلا مع ابنته تحت وابل المطر واتخذ طريقه إلى البيت وليس فى جيبه قرش واحد .. واستقبلته زوجته باحثة فى جيوبه .. ثم سألت :
ـ أين الفلوس ..؟ اشتريت بها سجائر ..؟
فلم يرد عليها .. ووضع العود جانبا .. واضطجع ..
ـ هل يمكن أن تعيش أسرة هكذا وتتغذى من الهواء .. أعمل معروفا .. البنت كبرت دعها تشتغل وتساعدنا ..
ـ ماذا تعمل ..؟
ـ أى شىء .. تشتغل فى مصنع ملابس .. علب كرتون .. معمل حلوى .. أى شىء خير من دورانها معك .. فى الشوارع ..
ـ ستظل معى إلى أن أموت .. فلماذا تصرخين لقد اعتدنا على هذه الحياة ..
ـ إنى مشفقة عليك وعلى حالك .. والجوع حطمك .. ووجهك أصفر .. كالبرتقال ..
ـ أعملى كباية شاى .. أحس برعشة ..
ـ لايوجد .. شاى ولا سكر ..
ـ أى شىء سخن ..
ـ لايوجد شىء على الاطلاق ..!
ودخل الفراش محموما .. وفى الصباح لم يستطع أن ينهض .. وأخذه السعال وكان عنده بقايا دواء فى زجاجة .. فشربه .. ولكنه لم يتحسن وزادت حالته سوءا .. واحتار .. فيما يفعل فهو لايستطيع أن يذهب إلى المستشفى .. كما أنه لايستطيع أن يأتى بطبيب خاص إلى بيته ..
وكان عنده عود لايستعمله فأرسل ابنته إلى محل يعرفه فرهنته .. ببضعة قروش .. وركب عربة إلى مستشفى عمومى .. وقال له الطبيب أنه مصاب بالتهاب رئوى .. ومع هذا فهو لايستطيع أن يدخل المستشفى لأنه لاتوجد أسرة .. وأعطاه الطبيب تذكرة الدواء .. وخرج إبراهيم يطوق صدره بذراعيه وسقط فى البيت .. على فراشه كالميت ..
وفى صباح اليوم التالى .. وجد ابنته تقدم له الدواء .. وجاء من يحقنه بالبنسلين ..
فسأل :
ـ من أين جئتم بالفلوس ..؟
فردت زوجته :
ـ بعت الكردان .. وارتفع بهامته قليلا .. يتحسس عنقها .. فلم يجده .. فتألم لأن هذا الكردان .. فى عنق زوجته منذ عشرين سنة ..
ولكنه ارتاح فى الوقت نفسه .. لأن ما ذهب يمكن أن يعوض .. وقد وجدت الأسرة ما تعيش به فى فترة مرضه .. وعجزه عن الكسب ..
وكان يود أن يشفى سريعا .. ولكن مرضه طال .. حتى شعر بالقلق ..
وكانت ابنته بثينة هى التى تمرضه .. وتسهر بجانب فراشه .. وذات يوم .. لم يجدها بجواره كالعادة .. وسأل عنها زوجته .. فقالت له أنها ذهبت عند جارتهم سكينة لتجىء بشىء وتعود حالا .. ولكن طال غيابها فتوجس شيئا .. وأمسك بذراع زوجته وهزها ..
ـ إلى أين ذهبت .. هل بعثتها لأحمد أفندى .. كما كنت تفكرين .. وطبعا أنت عارفة الفتاة التى تشتغل عند رجل عازب .. تصبح .. إيه ..
وهزها .. فحاولت أن تفلت منه .. ولكنه شد قبضته عليها .. وزحفت يده الأخرى على عنقها .. فوجد الكردان ..
ـ ما هذا ..؟!
وضغط على عنقها .. فصرخت .. ودخلت بثينة على صراخ أمها .. وحاولت أن تخلصها منه ولكنه أخذ يضرب الأثنين بعنف وبكل ما تبقى فى جسمه من قوة .. حتى خارت قواه .. فسقط فى مكانه .. وتركته المرأتان .. وجرتا إلى الخارج ..
***
ولما هدأ قليلا .. قالت له زوجته أن بثينة .. لم تخرج من البيت ولم تشتغل عند أحد وأنهم اقترضوا خمسة جنيهات من جارتهم السيدة سكينة .. وجاءوا له بالدواء والحقن .. فسكنت ثورته .. ورجع إلى نفسه ..
وبعد أيام قليلة شفى .. ورجع يخرج مع ابنته وفى يده العود ..
***
وذات ليلة ممطرة .. وكانت السحب تجرى مذعورة فى السماء والمصابيح تلمع على الأرض المبللة .. سار إبراهيم تجره ابنته .. بعد جولتهما الليلية راجعين إلى البيت .. وكان الشارع خاليا من المارة .. فسمعا وهما يجتازان بعض الشوارع الضيقة فى حى معروف .. عزف مندلين فى الليل الساكن يأتى من بعيد .. وتمهلت بثينة .. وهى تسمع .. حتى عرفت الجهة التى يصدر منها الصوت .. وكان اللحن حزينا مؤثرا كأنه يصدر عن وتر يتمزق واقتربت من مكان العزف على مهل .. وعلى ضوء أحد المصابيح الكهربية .. وجدت رجلا يجلس على سور منزل قديم .. وقد احتضن المندلين .. وكانت ريشته تلعب .. وأخذ النغم يخف ويروق .. حتى أصبح أرق من النسيم .. ثم انقطع العزف .. برنة واحدة حزينة ..
واقتربت بثينة مع والدها .. حتى وقفت على رأس الرجل .. وكان قد احتضن المندلين .. وسقط رأسه على كتفه ..
وكان كل من يراه يتصور أنه فى غفوة قصيرة ..
ولكن أصابعه المتقلصة على الريشة .. كانت تدل على أن يده كفت عن العزف إلى الأبد ..
وسمع إبراهيم ابنته تنشج فى بكاء مكتوم ..
فسألها :
ـ أتعرفين الرجل ..؟!
ـ إنه الفنان .. الذى أعطانا ثمن الدواء .. وأنت مريض .. وضعه تحت الباب .. ثم اختفى .. ولقد وجدناه الآن .. لنرد له النقود ..
وخنقتها العبرات .. وأخذ والدها يدرك بقلبه .. كل شىء .. ثم انحنى على الفنان وغطاه بسترته ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بعددها رقم 226 بتاريخ 17/1/1957 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " سنة 1960
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة محمود البدوى
فى ليلة من ليالى السبت دخل إبراهيم عبد المجيد وهو موسيقى محترف حانة من الحانات الكثيرة المنتشرة فى حى قصر النيل .. وكان يمسك فى يسراه العود ملفوفا .. فى كيس من القماش وفى يمناه ابنته بثينة التى كانت تقوده فى هذه الشوارع لأول مرة وقد بهرتها الأنوار ..
دخلا الحانة من بابها الصغير حابسين الخطى كأنهما لصان ..
واختارت بثينة مكانا وسطا يسمع منه جميع من فى القاعة .. وقع الأوتار ..
وجلس والدها يشد أوتار العود .. وقد احتضنه فى صدره .. وأمسك بالريشة وأخذ يدندن .. ليهىء ابنته للدور .. وفيما هو مستغرق فى عمله مقبل عليه بكليته وقف بجانبه صاحب " البار " .. وهمس فى أذنه بشىء ..
فرفع الموسيقى رأسه وسأل :
ـ لماذا ..؟
ـ الزبائن عندنا لايحبون الموسيقى العربية ..
ـ لم .. وأكثرهم مصريون ..!؟
ـ ولكنهم لايحبون هذه الموسيقى .. فتفضل بره ..
وأسقط فى يد الرجل .. فلم يحدث أن تلقى فى حياته مثل هذه الإهانة ..
وحول وجهه إلى فتاته فى صمت .. وجمع حاجته .. ونهض .. والدم يفور من كل شرايينه ..
وكان الحان مستطيلا والمقاعد صفت على الجانبين .. فتنبه الموجودون لما حدث ..
وصاح أحدهم فى صاحب البار :
ـ خليها ترقص يا خواجه باولو .. دى حلوة ..
ورنت ضحكات أنثى .. وسعال سكير .. ودفع الموسيقى ابنته إلى الخارج وصفق الباب وراءه .. بعنف .. فأخذ هذا يتأرجح على المزلاج .. ويحدث صوتا رتيبا .. لمدة دقيقة كاملة ..
ثم خيم السكون .. والكآبة على المكان .. وأصبح الدخان .. والسعال والحزن أبرز شىء فيه ..
وكان صاحب البار .. قد عاد إلى مكانه من المنصة بهدوء .. كأنه ما فعل شيئا .. ولكن كان هناك شخص يركب حركاته باهتمام منذ البداية ولاحظ كل ما حدث .. وكان هذا الشخص هو أنطونيو .. العازف على المندولين .. فى " البار " وكان قد سمع الحوار .. وأحس بمثل اللطمة على خده .. عندما رأى الموسيقى الأعمى خارجا وهو يجر ابنته والعيون تحدق فيه بفضول وحشى .. ولم يستطع أن يكتم غضبه .. فطلب كأسا من الكونياك .. وظل يشرب .. ويشرب وهو لايتحرك من مكانه .. ولاحظ الرواد أنه ترك المندولين جانبا .. وانغمس فى الشراب .. فاقترب منه صاحب البار وقال له :
ـ أعزف شيئا .. يا أنطونيو ..
ـ إنى متعب .. ليس لى مزاج الليلة ..
ـ الليلة .. مساء السبت .. والبار ممتلىء ..
ـ لن أعزف فى هذا البار شيئا آخر قط ..
ـ لماذا ..؟
ـ لقد أهنت الرجل أمامى .. وطردته ..
ـ فعلت هذا .. من أجلك .. والزبائن هنا لايحبون الصخب ..
ـ أنك لم تسمع شيئا من الرجل .. والصخب والضجيج يأتيان دائما من روادك .. لماذا لم تذكر السبب الحقيقى بصراحة ..
ـ أى سبب ..؟
ـ لماذا لاتقول بصراحة .. أنك متعصب .. وطردته .. لأنه مصرى ..
ـ أبدا .. ما فكرت فى هذا ..
ـ هذا هو السبب .. فلا تكن جبانا .. لقد حسبت أن ذلك يرضينى .. لأنى أجنبى مثلك .. ولكنك نسيت أن الفن لاوطن له .. وأن الإهانه وجهت إلى شخصى ..
ـ لم أكن أتصور هذا .. وأعتذر ..
ـ فات الأوان .. ولقد لقى الرجل الصفعة على وجهه وخرج بها ..
ـ القهاوى .. والبارات .. كثيرة ..
ـ ولكن الرجل فنان .. ولقد أهنته وشللت أنامله .. فهو لايستطيع أن يحرك أصابعه الليلة وسيذهب إلى بيته .. وينام هو وأسرته من غير عشاء .. وأنت لاتعرف البطن عندما تصرخ لأنك حقير وأعتدت أن تملأه من فضلات الزبائن ..
وتناول أنطونيو المندلين .. وخرج يدفع الباب برجله واستقبله .. الليل .. ومطر الشتاء فضم سترته على صدره ..
***
وكان الموسيقى ابراهيم بعد أن خرج من الحانة حزينا محطم القلب .. قد أحس بالتعب فلم يستطع أن يمشى طويلا مع ابنته تحت وابل المطر واتخذ طريقه إلى البيت وليس فى جيبه قرش واحد .. واستقبلته زوجته باحثة فى جيوبه .. ثم سألت :
ـ أين الفلوس ..؟ اشتريت بها سجائر ..؟
فلم يرد عليها .. ووضع العود جانبا .. واضطجع ..
ـ هل يمكن أن تعيش أسرة هكذا وتتغذى من الهواء .. أعمل معروفا .. البنت كبرت دعها تشتغل وتساعدنا ..
ـ ماذا تعمل ..؟
ـ أى شىء .. تشتغل فى مصنع ملابس .. علب كرتون .. معمل حلوى .. أى شىء خير من دورانها معك .. فى الشوارع ..
ـ ستظل معى إلى أن أموت .. فلماذا تصرخين لقد اعتدنا على هذه الحياة ..
ـ إنى مشفقة عليك وعلى حالك .. والجوع حطمك .. ووجهك أصفر .. كالبرتقال ..
ـ أعملى كباية شاى .. أحس برعشة ..
ـ لايوجد .. شاى ولا سكر ..
ـ أى شىء سخن ..
ـ لايوجد شىء على الاطلاق ..!
ودخل الفراش محموما .. وفى الصباح لم يستطع أن ينهض .. وأخذه السعال وكان عنده بقايا دواء فى زجاجة .. فشربه .. ولكنه لم يتحسن وزادت حالته سوءا .. واحتار .. فيما يفعل فهو لايستطيع أن يذهب إلى المستشفى .. كما أنه لايستطيع أن يأتى بطبيب خاص إلى بيته ..
وكان عنده عود لايستعمله فأرسل ابنته إلى محل يعرفه فرهنته .. ببضعة قروش .. وركب عربة إلى مستشفى عمومى .. وقال له الطبيب أنه مصاب بالتهاب رئوى .. ومع هذا فهو لايستطيع أن يدخل المستشفى لأنه لاتوجد أسرة .. وأعطاه الطبيب تذكرة الدواء .. وخرج إبراهيم يطوق صدره بذراعيه وسقط فى البيت .. على فراشه كالميت ..
وفى صباح اليوم التالى .. وجد ابنته تقدم له الدواء .. وجاء من يحقنه بالبنسلين ..
فسأل :
ـ من أين جئتم بالفلوس ..؟
فردت زوجته :
ـ بعت الكردان .. وارتفع بهامته قليلا .. يتحسس عنقها .. فلم يجده .. فتألم لأن هذا الكردان .. فى عنق زوجته منذ عشرين سنة ..
ولكنه ارتاح فى الوقت نفسه .. لأن ما ذهب يمكن أن يعوض .. وقد وجدت الأسرة ما تعيش به فى فترة مرضه .. وعجزه عن الكسب ..
وكان يود أن يشفى سريعا .. ولكن مرضه طال .. حتى شعر بالقلق ..
وكانت ابنته بثينة هى التى تمرضه .. وتسهر بجانب فراشه .. وذات يوم .. لم يجدها بجواره كالعادة .. وسأل عنها زوجته .. فقالت له أنها ذهبت عند جارتهم سكينة لتجىء بشىء وتعود حالا .. ولكن طال غيابها فتوجس شيئا .. وأمسك بذراع زوجته وهزها ..
ـ إلى أين ذهبت .. هل بعثتها لأحمد أفندى .. كما كنت تفكرين .. وطبعا أنت عارفة الفتاة التى تشتغل عند رجل عازب .. تصبح .. إيه ..
وهزها .. فحاولت أن تفلت منه .. ولكنه شد قبضته عليها .. وزحفت يده الأخرى على عنقها .. فوجد الكردان ..
ـ ما هذا ..؟!
وضغط على عنقها .. فصرخت .. ودخلت بثينة على صراخ أمها .. وحاولت أن تخلصها منه ولكنه أخذ يضرب الأثنين بعنف وبكل ما تبقى فى جسمه من قوة .. حتى خارت قواه .. فسقط فى مكانه .. وتركته المرأتان .. وجرتا إلى الخارج ..
***
ولما هدأ قليلا .. قالت له زوجته أن بثينة .. لم تخرج من البيت ولم تشتغل عند أحد وأنهم اقترضوا خمسة جنيهات من جارتهم السيدة سكينة .. وجاءوا له بالدواء والحقن .. فسكنت ثورته .. ورجع إلى نفسه ..
وبعد أيام قليلة شفى .. ورجع يخرج مع ابنته وفى يده العود ..
***
وذات ليلة ممطرة .. وكانت السحب تجرى مذعورة فى السماء والمصابيح تلمع على الأرض المبللة .. سار إبراهيم تجره ابنته .. بعد جولتهما الليلية راجعين إلى البيت .. وكان الشارع خاليا من المارة .. فسمعا وهما يجتازان بعض الشوارع الضيقة فى حى معروف .. عزف مندلين فى الليل الساكن يأتى من بعيد .. وتمهلت بثينة .. وهى تسمع .. حتى عرفت الجهة التى يصدر منها الصوت .. وكان اللحن حزينا مؤثرا كأنه يصدر عن وتر يتمزق واقتربت من مكان العزف على مهل .. وعلى ضوء أحد المصابيح الكهربية .. وجدت رجلا يجلس على سور منزل قديم .. وقد احتضن المندلين .. وكانت ريشته تلعب .. وأخذ النغم يخف ويروق .. حتى أصبح أرق من النسيم .. ثم انقطع العزف .. برنة واحدة حزينة ..
واقتربت بثينة مع والدها .. حتى وقفت على رأس الرجل .. وكان قد احتضن المندلين .. وسقط رأسه على كتفه ..
وكان كل من يراه يتصور أنه فى غفوة قصيرة ..
ولكن أصابعه المتقلصة على الريشة .. كانت تدل على أن يده كفت عن العزف إلى الأبد ..
وسمع إبراهيم ابنته تنشج فى بكاء مكتوم ..
فسألها :
ـ أتعرفين الرجل ..؟!
ـ إنه الفنان .. الذى أعطانا ثمن الدواء .. وأنت مريض .. وضعه تحت الباب .. ثم اختفى .. ولقد وجدناه الآن .. لنرد له النقود ..
وخنقتها العبرات .. وأخذ والدها يدرك بقلبه .. كل شىء .. ثم انحنى على الفنان وغطاه بسترته ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بعددها رقم 226 بتاريخ 17/1/1957 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " سنة 1960
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق