الأربعاء، ٣١ أكتوبر ٢٠٠٧

السبت، ٢٧ أكتوبر ٢٠٠٧

رسامة ـ قصة قصيرة

رسامة

قصة محمود البدوى

كان اليوم الثانى من عيد الفطر .. والنفوس ضاحكة مستبشرة بالعيد وذهبت أزور صديقا فى إحدى المجلات الأسبوعية .. ودخلت علينا فى ساعة الظهيرة فتاة حسناء تحمل لوحة كغلاف للمجلة .. وسر الصديق من روعتها .. ووضوح فكرتها ..
ووقفت بجانبه أتأمل الرسم وأطرى عمل الفتاة .. وكانت هى فى خلال ذلك قد انزوت فى ركن وهى خجلى وخداها يتقدان وعرفنى بها كرسامة موهوبة وزاد هذا من ارتباكها ونظرت إلىَّ قليلا .. ثم نكست رأسها ..
والواقع أن الفتاة كانت هى نفسها لوحة رائعة أجمل من اللوحة التى رسمتها .. كانت فيها فتنة بارزة فى الشفة والحاجب .. والعين السوداء الناعسة ..
وكنت أشعر بانتفاضة كلما رأيت فتاة تدخل من الباب الضيق فى عالم الفنون .. وتصبح شاعرة أو موسيقية .. أو رسامة .. لمجرد أنها أنثى ..
وعلى هذا الاعتبار المشحون بالعواطف الفائرة عاملت الفتاة .. فلما أخرج لها صاحبى من درج مكتبه " الشيك " ثمنا للرسم .. تناولته .. وقلبته فى حيرة ..
ـ أصرفه من هنا ..؟
كانت تمسك " شيكا " لأول مرة فى حياتها .. ولما لاحظت حيرتها أخذته منها .. وأعطيتها الجنيهات .. السبعة .. وسرت كثيرا وشكرتنى ..
ولاحظت وهى خارجة من الدار أنها تعرج ..
***
وكنت فى ذلك الوقت أسكن فى ضاحية الهرم فى منطقة الفيلات الصغيرة .. بمحطة " الوسط " وكان بيتى صغيرا .. وبعيدا عن الشارع الرئيسى .. وعن طريق السيارات .. هناك وسط المزارع .. كنت أعيش وأرسم وحيدا محروما من متع الحياة ..
ولكن الفرشاة كانت لينة فى يدى وروحى كانت منطلقة وأفكارى كانت تعلو وتأتى بكل جديد ورائع ..
وكنت فى الطريق إلى البيت أمر على ملاهى الأوبرج .. والأريزونا .. وهافانا .. وأحادث بعض النساء اللواتى تطاردهن السيارات .. أو ترميهن الملاهى إلى ظلام الطريق .. وكنت إذا وجدت فيهن الوجه الذى يعبر عن شىء يكون فكرة آخذ صاحبته إلى البيت .. وتجلس أمامى ساعات .. وأرسمها فى الوضع الذى يبرز مفاتنها .. ثم أعطيها كل ما معى من نقود ..
كنت أرسم فى هذه المنطقة الهادئة .. وأكلف بعمل كثير ولا أجد فى وقتى ساعة من فراغ .. وكنت أربح كثيرا وأنفق أكثر مما أربح وأعيش فى دوامة .. من التفكير فى العمل والحياة الخالصة للفن .. وكان الانكباب على اللوحات من الصباح .. إلى ساعة الليل .. يرهقنى .. فأرمى الفرشاة وأنا محطم الجسم والأعصاب وأستغرق فى النعاس ببدلتى ..!!
وإذا استيقظت فى الصباح مبكرا .. كنت أذهب إلى قلب القاهرة .. وكنت أعرض بعض لوحاتى .. عند تاجر إيطالى يدعى " مارزينى " وكان خبير فى صنعته وعنده ورشة لصنع أجمل البراويز على الاطلاق وكان يبيع لى لوحة واحدة أو لوحتين فى السنة .. وكنت أكتفى بهذا القدر .. لأنه كان يتعامل مع خاصة الزبائن من عشاق الفنون الذين يدفعون أثمانا عالية ..
***
وحدث عصر يوم وأنا جالس فى مدخل المحل .. أن دخلت علينا نفس الفتاة التى قابلتها فى المجلة وكانت تحمل لوحة ملفوفة .. ولما رأتنى فى الداخل عرفتنى .. فشجعها هذا على مخاطبة صاحب المحل .. واعتذر لها الرجل عن شراء أى شىء لأن اللوحات عنده مكدسة .. ولكنه وعد أن يعرض لها اللوحة فى معرضه بالثمن الذى تراه ..
واشتركت معها فى تقدير الثمن ثم تركت اسمها وعنوانها للرجل وخرجت ومشيت معها فى شارع محمد فريد .. حتى اقتربنا من بنك مصر .. وعلمت منها أنها تعلمت الرسم فى المدرسة .. وأنها عشقته من الطفولة .. وعندها لوحات كبيرة .. وأنها ترسم لأنها تقضى الوقت كله مع والدتها فى البيت .. وكانت لاتفكر فى العرض أو البيع ولكن زميلة لها شجعتها على ذلك ..
وقالت لى أنها تعرفنى من سنين .. منذ رأت أول لوحاتى فى معرض الفنون الجميلة .. وأنها تعتبرنى أستاذها .. وقد شكرتها على هذا الاطراء .. وسررت به ..
ولما سألتها :
ـ لماذا لم تقدمى شيئا آخر للمجلة ..؟
ـ لم يطلبوا منى شيئا آخر .. والظاهر أن الرسم لم يعجبهم ..
ـ كلا .. كلا .. بالعكس ..
ـ هذا .. ما حدث ..
وشعرت بالشىء الذى يصرخ فى أعماقها ..
وكنت أمشى الهوينا .. حتى لا أحرجها .. أو أجعلها تحس بأنها تعرج أو تمشى مشية غير طبيعية ..
وكانت رقيقة وادعة .. وتتأبط حقيبة فيها بعض الكتب .. كأنها طالبة فى الجامعة ترافق والدها ..
وكنت أحس بهذا الفارق الكبير فى السن وأخجل منه .. ولكنها كانت تمشى بجوارى مستريحة وكأنها وجدت من تأتنس بعشرته فرافقتها حتى ركبت الترام رقم 17 إلى الحلمية الجديدة ..
***
ثم التقيت بها بعد ذلك بشهرين على التحديد .. عند أجزخانة الإسعاف وكنت أنتظر الأتوبيس الذاهب إلى الجيزة ..
وكانت داخلة الأجزخانة .. وهى تسرع برغم عرجها .. ثم خرجت بعد دقيقتين كاسفة البال .. وفى يدها " الروشتة " ..
وعلمت منها أنها تبحث عن كورامين لوالدتها .. ولم تجده فى معظم الأجزخانات .. وجاءت إلى أجزخانة الإسعاف .. وكلها أمل .. ولكن خاب ظنها ..
وخطر فى بالى فى الحال صديق يعمل فى مخزن كبير للأدوية .. وكنت أستعين به فى أشد الأوقات حروجة .. ولكن بيته كان فى الحسين .. وخشيت أن أذهب إليه فلا أجده فى هذه الساعة من الليل .. ومع هذا حدثت سعاد عنه .. ورجوتها أن تنتظرنى فى بيتها ولكنها أصرت على أن ترافقنى فى هذه الجولة ..
***
وركبنا تاكسى .. ووجدنا الصديق .. وجاء لنا بالزجاجة .. وطارت بها سعاد فرحا .. وأخذت تضغط على يدى .. مرة .. ومرة .. ولما علمت أنها وحيدة وأنه لا أحد يمرض والدتها ويعولها سواها رافقتها إلى البيت وكان من طابقين .. لاحظت أن النوافذ كلها مغلقة .. كأنه لا يسكنه أحد لم أجد غير امرأة عجوز .. وسمعت من يقول وأنا داخل :
ـ الدكتور .. جاء ثانية ..
وجلست فى الصالة وحيدا .. وطالعنى الصمت .. وكان بعض الجارات عند المريضة فى الدور العلوى .. ورأيت أثاث البيت نظيفا وكل شىء مرتبا كأنه معد لاستقبال ضيف .. ورأيت على الحائط صورة كبيرة لرجل فى الخمسين من عمره يلبس طربوشا وبدلة .. وكان طويل الوجه وله شارب مفتول .. وكأنما كان يسدد النظر إلىَّ ويتعقبنى أينما تحركت .. فلقد رأيت صورة نفس الرجل مصغرة .. ومكبرة .. وبالزيت .. وبالفحم .. فى أكثر من مكان فى البيت ..
وجاءت سعاد .. بعد أن اطمأنت على والدتها .. تقدم لى كوبا من عصير الليمون .. وقالت لى فى رقة :
ـ أتعرف أنك أول رجل يدخل البيت .. بعد وفاة والدى ..
ورفعت عينيها إلى الصورة ..
وفتحت فمى مدهوشا .. منذ عشرين سنة .. وهى محبوسة فى هذا البيت .. لم تشاهد رجلا ولم تسمح لرجل بأن يدخل عليها العتبة .. وكان جميع الجيران يعرفون طباعها ويحترمون ارادتها ..
ـ ولكن لماذا تفعلين هذا ..؟
ـ مات والدى فى شبابه خرج فى الصباح إلى عمله .. وفى الظهر عاد الينا محمولا على النعش .. ولما دفنوه لم أصدق أنه ذهب .. كان رجلا وكان يحبنى وكنت أعبده .. فأغلقت نوافذ البيت وأنزلت الأستار .. وتصورته يتحرك معى .. أينما ذهبت وها أنت تراه فى كل مكان ..
ونكست رأسى ألما فلم أر فى حياتى أشد من هذا قسوة على النفس وتضحية ..
ونظرت إلى الفتاة المسكينة وإلى مصيرها بعد أمها وذاب قلبى حسرات فقد علمت أن والدها لم يترك سواها .. وأن أهل والدها من دسوق ولكن صلتهم بها قد انقطعت منذ ثلاثين سنة .. ولا تعرف إن كانوا أحياء أم أمواتا ..
وأصبحت أعطف على الفتاة وأزورها وأحمل لها زجاجات الكورامين .. وكنت أجلس فى غرفة صغيرة فى المدخل .. وأرى البيت المهجور .. ساكنا .. وجدرانه أكلتها الرطوبة .. وهواءه راكدا .. فاسدا ..
وقالت لى الفتاة أن والدتها ضعف بصرها منذ أربعة شهور حتى أصبحت لا تستطيع أن تواجه النور ..
وألح علىَّ الفضول لأرى هذه السيدة الغريبة فى النساء .. وجعلتنى سعاد أراها وهى مستغرقة فى الصلاة .. وكانت ترتدى وشاحا أبيض ..
***
ومرت الأيام وزاد عطفى على الفتاة ووجدتها تتعلق بى وتندفع بكل عواطفها نحوى .. وكأنها وجدت فىَّ الأب الذى عاد بعد غيبة طويلة .. ووجدت نفسى بعد ثمانية شهور لا أستطيع الفكاك .. وأصبحت الفتاة تتحرك فى داخل الاطار الذى رسمته لها .. وكنت كلما أمسكت بيدها الصغيرة .. أحس بها ترتعش ..
كانت تغالب الانفعال المكبوت ..
وذات مساء .. وأنا أودعها على الباب .. بعد نزهة فى الخارج وجدتها ترتمى على صدرى .. وتشكو لى همها ..
وفى يوم عبوس .. ماتت والدتها قبل الفجر .. ولم أترك الفتاة لرحمة الأقدار .. فتزوجتها وأغلقت بيتها فى الحلمية وجاءت إلى بيتى فى الهرم ..
وقضينا الأسابيع الأولى بعد الزواج ونحن فى سعادة لا توصف .. ولكننى لاحظت .. أننى إذا ذهبت فى عمل إلى القاهرة .. أجدها واقفة على باب الفيلا .. تنتظر فى لهفة وقلق .. ومرة أجدها واقفة على رأس الشارع .. وكنت كلما أفهمتها أن هذا القلق لا مبرر له .. وأننى أخرج كأى إنسان إلى عملى .. وأعود كما يعود سائر الناس مرة فى الميعاد ومرة متأخرا .. ويجب أن تعوّد نفسها هذا .. كانت ترد على هذا الكلام بالبكاء المكتوم ..
وأخيرا تركتها على طبيعتها ولكنها شلت حركتى .. وعملى .. أصبح قلقها يغيظنى ويثير أعصابى ..
ورأيت أن أريحها من هذا العناء .. فانتقلنا إلى بيتها الكبير فى الحلمية لتعيش هناك ..
***
انتقلت بلوحاتى .. وفتحت نوافذ البيت للنور والشمس .. وطلينا الجدران ولكن حبها لى يزداد يوما بعد يوم .. وأنا أشعر بسعادة ولكن أخاف أن يتحول هذا الحب إلى عبادة .. فترفع صورتى إلى جانب صورة المرحوم ..!!
ولهذا كنت أهرب .. أهرب .. من البيت وأهرب من عواطفها الدافقة لأعيش .. ويعيش حبنا وتتحرك فرشاتى على اللوحة ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فى القطار ـ قصة قصيرة

نشرت القصة فى عام 1944
فى القطار
قصة محمود البدوى

مررت ببخارست وأنا فى طريقى إلى سينايا .. أجمل المدائن الرومانية على الاطلاق ، وعدت إليها وأنا عائد من جورجو على الدانوب .. فبت فيها ليلة واحدة ، فى فندق متواضع يقرب من محطة الشمال ، وقمت مبكرا لأطوف بالمدينة قبل رحيلى عنها .. فمن العسير على المرء أن يمر بباريس الصغرى ، ولا يشاهدها مرة ومرات ، رغم جوها الحار فى الصيف .

ولما أقبل المساء ، كنت فى طريقى إلى المحطة ، لآخذ القطار إلى كونستنزا .. وكنت قد حجزت لى مقعدا ، ولهذا بلغت المحطة قبل قيام القطار بدقائق قليلة ، وكانت معى حقيبة واحدة ، أما باقى الحقائب فقد خلفتها عند صديق لى فى كارمن سيلفيا .. ولما أخذت مكانى فى القطار ، راعنى أن صاحب المكان المقابل لى يملأ الديوان بحقيبة ضخمة مكتظة .. فتصورته تاجرا من تجار الفراء ، أو مهراجا فى طريقه إلى الهند .

وعندما دق جرس القطار مؤذنا بالرحيل .. كان خادم العربة يفتح الديوان ، وينحنى مفسحا الطريق لسيدة فى لباس أسود ، وقبعة طويلة تكاد تحجب عنى بريق عينيها النجلاوين .. وملت إلى الوراء وشغلت نفسى بالنظر من النافذة إلى المحطة الجميلة ، وهى غاصة بالمسافرين إلى مختلف الجهات .. وإلى حركة القطارات فيها .. وعندما تحولت عن النافذة ، كانت السيدة التى ترافقنى فى السفر ، مضطجعة فى ركن من الديوان ، وقد فتحت كتابا .. ورفعت بصرى إليها ، ورأيت وجهها الدقيق وملامحها الساكنة ، والسواد الشديد الذى يبدو من عينيها ، وأدركت أنها رومانية أو بلغارية أو تركية ، فهذا الوجه بملامحه وسماته الشرقية ، لاتراه إلا فى هاتيك البلاد ..

وتحرك القطار ، وخلف وراءه تلك المدينة الساحرة تتلألأ بالنور ، وتدفق بالحياة .. وخفق قلبى .. فأنا أحمل لهذه المدينة فى أعماق نفسى أطيب الذكر .. وعلى الرغم من أننى مررت عليها أكثر من مرة ، ومكثت فيها أكثر من عام ، فما من مرة زرتها إلا وجدت فيها سحرا جديدا ، ولونا جديدا من ألوان الحياة ، فيه كل ما يسر النفس ويثلج الفؤاد ..

ولقد زرتها فى أول مرة ، وأنا فى حالة موئسة من التعاسة وخيبة الأمل ، فما رأيتها ، ورأيت ما فيها من جمال .. حتى غمرنى السرور ، وتفتحت نفسى لمباهج الحياة من جديد .. ولهذا شعرت ، عندما تحرك القطار ، بالأسى الذى يغمر النفس ، ويكرب الصدر ، ويبعث الحزن فى الفؤاد .. هل أعود إلى هذه البلاد ، وهذه المدينة ؟ .. هذا ما أرجوه من الله ، وأتمناه لنفسى ..

ملت عن النافذة ، وأغلقت عينى .. هل غفوت ؟ .. لا أدرى .. والنوم لايليق فى هذه الساعة ، وفى رفقة سيدة جميلة ..

أرسلت بصرى إلى السماء الزرقاء .. والقطار ينطلق كالسهم فى وادى الدانوب ، وقد سكنت حركة المسافرين ، وانقطعت أصواتهم .. ونظرت إلى هذه السيدة من جديد ، وبدا لى أنها نظرت إلىّ ، وملأت عينيها منى ، وأنا فى سباتى .. وكونت لنفسها فكرة عنى .. فكرة ما .. فما أسد نظر المرأة .. وعندما جاء مفتش التذاكر ، وحدثنى بالرومانية وجاوبته بالفرنسية التى لايعرفها ، ابتسمت السيدة ابتسامة خفيفة ولكنها لم تحاول انقاذى أو انقاذه ! فتركتنا فى ارتباكنا .. وانسحب الرجل ، وقد رأى أن ذلك خير ما يعمله ..! ولا زلت إلى هذه الساعة أجهل ما كان يريده .

وأشعلت المصباح الكهربائى الذى بجوارى ، وفتحت كتابا معى ، وكنت أرفع نظرى عن الكتاب إلى رفيقتى فى السفر ، بين حين وحين ..

وكان النور الهادىء قد زاد وجهها تألقا وفتنة .. وجعلنى أنجذب بكليتى نحوها .. يا الله .. إن حياتى كلها أسفار .. ولكم رأيت وجوه .. نساء من كل جنس ولون .. ولكن لم أشاهد وجها كهذا الوجه ، فى سكون ملامحه ، وروعة حسنه .. هل أبدأ بالحديث ؟ .. لا .. إن تجاربى علمتنى غير ذلك .. فالرجل الذى يفاجىء المرأة بالحديث ، دون مناسبة ، يسقط فى نظرها ، ويجعلها تدل عليه وتزهو .. ومع كل ، فما كنت رجل أحلام .. فما الذى أوده من مسافرة فى طريقها إلى زوجها أو بيتها أو مصيفها .. خمس ساعات فى القطار ، ثم يمضى كل لوجهه .. وما أكثر الوجوه التى نلتقى بها عرضا ، ثم تفترق إلى الأبد .. هل يمكن أن أكون أهدأ أعصابا ، وأنعم بالا ، لو كنت مسافرا فى الديوان وحدى ؟ .. ربما .. فأنا وحيد على الباخرة .. ووحيد فى القطار .. ووحيد فى الفندق .. بيد أن ذكريات قلبى جميعا تنشأ من هذه الوحدة .. وهل يمكن أن يظل رجل وامرأة فى سفر طويل كهذا دون أن يتحادثا ؟ّ..

تراجعت إلى الوراء ، وطويت الكتاب .. وكانت سحب الصيف الخفيفة قد انتشرت فى رقعة السماء ، وبدا القمر من خلالها يتسحب ، ووادى الدانوب مخضر بالزرع ، يانع بالنبت ، يزهو ويميد !

كانت الطبيعة سافرة فى أروع صورها .. وكان القطار يطوى المدائن الصغيرة ، والقرى المزهرة على ضفاف النهر ، بمنازلها البيضاء الصغيرة ، وسقوفها المحدودبة ، وكنت أرى على ضوء القمر ، عند سفوح بعض التلال البعيدة ، قطعانا من البقر وحولها الفرسان بملابسهم الوطنية الزاهية .. ثم يمضى القطار ويطوى هذه المناظر طيا ! انثنيت عن النافذة وأنا اتنهد .. أسفت على هذه المناظر الجميلة التى أطويها من صفحة حياتى ، وقد لا أراها مرة أخرى ، وقد تنمحى صورتها من ذهنى .. من يدرى ؟..

كانت رفيقتى فى السفر قد استراحت فى ركن من العربة ، وأغلقت عينيها ..

رأيت هذه الأهداب الوطف ، تسبل على هاتين العينين الساجيتين .. وهذا الأنف الدقيق ، يتنفس فى هدوء .. وهذا الشعر الغزير الفحم ينسدل على الجبين .. وهذا الجسم الممشوق يسترخى ، ويستقبل نسمات المساء اللينة فى كسل ظاهر .. كانت قد تركت جسمها يتمدد على حريته ، وحد طاقته .. دون أن تقيد نفسها بوجودى .. وكان القمر كلما تخلص من السحاب ، أراق ضوءه الفضى على وجهها ، فضرج وجناته ، وعلى شعرها فذهب حواشيه !

وخفت سرعة القطار .. وأخذت السيدة تتحرك .. حركت ساقيها ، ومالت بجسمها إلى الخلف ، ووقف القطار على احدى المحطات فسألتنى :
ـ أهذه ت ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. لا أعرف .. أنا غريب عن هذه البلاد

وكأنها أدركت حالها فزمت شفتيها .. ربما كانت تحلم ، وفتحت عينيها ، وهى تحسبنى زوجها أو رفيقها .. فلما أدركت أنها فى القطار وفى رفقة رجل غريب ، عادت إلى صمتها .

وكان القطار قد تحرك ، وعاد السهوم إلى وجهها ، فقلت وقد أردت أن أزيل عن ذهنها ما كانت تفكر فيه :
ـ كل المحطات صغيرة ومتشابهة ..
فمدت رأسها إلى الأمام قليلا ، وقالت :
ـ أجل .. ولكنها جميلة ..

ثم سألت وهى تشير إلى النافذة :
ـ هل عشت فى بعض هذه القرى الصغيرة على الدانوب ؟.. انها آية من آيات الجمال .. لقد مضيت هناك شهرا كاملا ..
ـ لم أحظ بهذا النعيم بعد .. ولكننى أفكر فى ذلك ..
ـ هل ستعود إلى هذه البلاد مرة أخرى ؟..
ـ بالطبع .. كلما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
ـ وهل أنت فى طريقك إلى الآستانة ؟..
ـ إلى أبعد من ذلك ..
ـ إلى أين .. ؟
ـ إلى القاهرة ..
ـ فكرت فى هذا ..
ـ كيف ؟..
ـ من هناك يجىء أمثالك من الرجال .. صمت .. وحزن .. وهدوء الصحراء ..
ـ هذا حق ..
ـ هل أنت ذاهبة إلى كونستنزا ؟..
ـ أجل .. لبضعة أيام .. اعتدت على ذلك فى الصيف من كل عام ..
ـ وقادمة من بودابست ؟..
ـ أجل من بودابست ..

وأضافت :
ـ كنت أشاهد معرضها للصور ..
ونظرت إليها نظرة طويلة !

فسألتنى :
ـ لماذا تنظر إلىّ هكذا ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. لا أستطيع أن أجيب .. فقد يكون فى جوابى بعض القحة ..

فأخذت تضحك ولانت ملامح وجهها جدا ، ورأيت على وجهها شعور الإيناس ، وفى عينيها السرور المحض

ـ هل شاهدت الشرق ..؟
ـ أبدا .. أود ذلك ..
ـ هل قرأت كثيرا عن الشرق ..؟
ـ أجل .. قرأت كثيرا .. قرأت تاريخ العرب ..
ـ كان العرب عظماء فى حياتهم ومماتهم .. وقد حرمنا فى كثير من الأوقات حتى من لذة الذكرى .. وفى هذا بعض الشجن ..
ـ هذا صحيح ..
ـ هل يضايقك تيار الهواء ..؟
ـ أبدا دعنى أملأ رئتى من نسيم الليل ..
ـ إن السفر عندى هو خير متع المسافر ..
ـ هل سافرت كثيرا ..؟
ـ رأيت نصف العالم تقريبا ..
ـ وتود أن ترى نصفه الآخر ..؟
ـ لا .. لا .. لقد اكتفيت بما رأيت .. نفس الوجوه .. نفس المشاعر .. ونفس الحماقات .. فى كل مكان .. واعذرينى إذا قلت ونفس النساء أيضا ..
ـ تكلم كما تحب ..!
ـ هل قرأت شيئا جديدا فى التاريخ ..؟
ـ أبدا .. كل شىء يتكرر ، فقط تتضخم الصور ..
ـ آسف لقد أثقلت عليك .. هل تشعرين بجوع ! هل تسمحين بأن تتناولى معى قليلا من الجعة ..؟
ـ أشكرك لا أشعر بجوع ..!
ـ ولكنك عطشى .. ولن أتركك وحدك .. لابد من مرافقتى !

فضحكت ، ونهضت معى إلى عربة الطعام .. وكانت خالية إلا من بعض المسافرين ، تناثروا فى أركانها ..

ـ لن تشاهد فى هذه العربات أناسا بلباس السهرة ، كما تشاهد فى بعض البلاد الأخرى .. ليس من بين هؤلاء الناس من يضيع عمره فى حياة متكلفة بغيضة .. كلها مظاهر كاذبة !

وعلى الرغم من أننى كنت قد تعشيت فى بخارست ، فإنى أكلت .. وأكلت كثيرا .. وأكلت السيدة أيضا ، وشربت من الجعة .. أكثر مما شربت ! وتضرجت وجنتاها ، وازداد احمرار شفتيها ..
ولما عدنا إلى مكاننا من الديوان كنا أصدقاء ..

***

وبلغ القطار كونستنزا مع الصبح ، وكنت أود أن أنزل فيها ، ولكن السيدة أشارت علىّ بالنزول فى فندق هادىء فى ايفوريا فقبلت مشورتها .. وبقينا فى العربة التى ستلحق بقطار آخر يسافر إلى ايفوريا بعد دقائق قليلة ..

وبلغنا ايفوريا والشمس ترسل أول أشعتها الصفراء على تلك المدينة الصغيرة المتألقة على ساحل البحر .. ونزلنا فى الفندق ، وكانت غرفتى مجاورة لغرفتها ..

ونمت واستيقظت قبل الظهر .. ووجدتها جالسة فى شرفة الفندق الكبيرة ..
وابتدرتها بسؤالى :
ـ أنمت ..؟
ـ بعض الوقت .. فأنا لا أحب النوم فى النهار مطلقا ..

ونهضنا لنتغدى على مائدة صغيرة تطل على البحر .. وليس فى فنادق الدنيا جمعاء ، فندق يماثل هذا الفندق فى جماله وروعته .. فهو يقوم على هضبة عالية ، ويطل من جهاته الثلاث على البحر ، وتشرف جهته الرابعة على بروج ايفوريا الخضراء ، وحدائقها الناضرة ، فلا تطل منه فى أى ساعة من ساعات النهار إلا على أبدع منظر .. فإذا ما أسدل الليل أستاره ، خلته سفينة ضخمة عائمة فى المحيط ، وقد أحاط بها الجمال من كل جانب ..

وفى الأصيل نزلنا من الفندق إلى سيف البحر .. وكانت الشمس ترقص على صفحة الماء .. وبدت الطبيعة فى أحسن حللها ، وأبدع مناظرها ..
ـ هل تستحمين ..؟
فرفعت إلىّ وجها لونه الخفر ، وقالت :
ـ كنت أحب ذلك فى طفولتى .. أما الآن فأنا أرهب البحر .. أحب أن أشاهده من بعيد ..
ـ ولكنك ستستحمين يوما ما ..
ـ ربما .. ولكن ليس اليوم ..

وانحدرت الشمس ، وغاب قرصها فى الماء .. وبدت الزوارق الشراعية الصغيرة تتجه نحو الشاطىء .. وأخذ المستحمون يخرجون من البحر .. وغصت طرق ايفوريا بهم .. واتخذوا طريقهم إلى الفيلات الصغيرة المتناثرة فى رقعة الهضبة ..

ولما هبط الظلام ، صعدت مع السيدة إلى الفندق ..

***

كان الليل فى هزيعه الأول ، والريح رخاء والهواء منعشا .. وكان الظلام سادلا أستاره ، والقمر لم يطلع بعد .. وكان البحر على مدى أذرع قليلة منا ، هادىء الصفحة ، مصقول الأديم ..

وجلست بجوارها على كرسى طويل ، فى الشرفة الكبيرة التى تدور بالجوانب الثلاثة المشرفة على البحر .. وكان هناك بعض النزلاء جالسين عن قرب منا .. ولكنا لم نكن نسمع لهم حسا .. كان كل شىء يبعث على السكون والتأمل ، ويفتح آفاق النفس .. ونظرت إليها فإذا نظرها عالق بالبحر .. وقد علاها بعض السهوم .. لعلها كانت تسترجع الساعات التى دفعت بها إلى هذا المكان دفعا .. لقد مضى كل شىء سريعا ، ولم يستطع واحد منا أن يفترق عن الآخر ..

لقد كانت جالسة لأول مرة ، فى أول فندق نزلنا فيه بعد رحلة القطار ، وكأنها تجالس انسانا عرفته منذ فجر حياتها .. لقد أصبحنا بين عشية وضحاها عاشقين متيمين ..

وتعشينا عشاء خفيفا .. وشربت كثيرا ، وتمشينا قليلا فى الشرفة .. ثم سرت معها إلى باب غرفتها .. وشددت على يدها فى حرارة ..

***

واضطجعت على السرير ، ونظرى مسدد إلى الباب الذى يفصل غرفتى عن غرفتها .. كان هذا الباب موصدا .. وكانت غرفتها لاتزال مضيئة ، فهى لم تنم بعد .. ولعلها تطالع قبل نومها .. تناولت مجلة مصورة ، وأخذت أقلب البصر فيها .. ولكن نظرى كان يعود بين الفينة والفينة ، ويستقر على الباب .. وطويت الصحيفة ، ووضعت يدى على رأسى .. ونظرت إلى الساعة فى يدى .. لقد أزفت الساعة الأولى بعد منتصف الليل .. فهل يمكن أن تظل ساهرة هكذا إلى الصباح ؟! ما الذى تفكر فيه الآن ؟ هل كانت حماقة أن أطلب لكل واحد منا غرفة مستقلة ؟! ..

ونزلت من فوق السرير ، وأخذت أتمشى فى أرض الغرفة ، وأنا حافى القدمين ! وكنت أمر على الباب وأكاد التصق به .. ووضعت أذنى عليه وتسمعت .. لم أسمع حسا ولا حركة ، انها مستغرقة فى النوم .. ودارت يدى حول الباب فى الظلام .. وكنت قد أطفأت النور .. فوجدت مزلاجا من ناحيتى فأزحته .. وعالجت الأكرة فانفرج الباب قليلا .. فأعدت اغلاقه بهدوء .. وتراجعت إلى الوراء ، وقلبى يزداد خفقاته ، وتشتد ضرباته .. واتجهت إلى السرير .. هل أنام ؟.. وهلا تعد حماقة منى أن أدع هذا الجمال يفلت من يدى .. وربما إلى الأبد !..

ومشيت إلى النافذة ، والليل قد نشر غياهبه ، والبحر من تحتى يرغى ويزبد .. وعوت الرياح .. وتحركت الستر على النوافذ .. وتطلعت إلى السماء .. إلى أسرار الليل .. وأسرار النجوم البراقة ، فى الليل الموحش ، وأخذت أتأمل وأفكر .. هل أظل هكذا مضعضع الحواس ، مضطرب القلب ، قلق النفس ، حائر الفؤاد ؟.. وهى على أذرع قليلة منى ، وفى ملك يدى !.. وما من قوة ستجعلها ترفض .. وما من شىء سيجعلها تقول لا .. لماذا لاتفكر هى فيما أفكر فيه الآن .. ما أشقى الإنسان ، وما أشد عذابه !..

تطلعت إلى السماء .. ونظرت إلى الماء .. وكان الظلام ناشرا أستاره .. وكانت هناك سفن تعبر البحر الأسود .. وأنوارها تتراقص على الماء .. وكان الخليج الذى يقوم عليه الفندق قد اشتد موجه وصفق .. وعادت الطبيعة تزمجر كأننا فى الشتاء .. ولذ لى المنظر وأخذ بلبى ومجامع قلبى .. فأنا أحب السكون فى كل شىء إلا فى الطبيعة ، التى لا تبدو على فتنتها إلا وهى صاخبة ثائرة ..

ولقد انثنيت عن النافذة ، وأنا أفكر فى هذه الفتاة .. وعدت إلى السرير ، وأنا لا أزال محيرا ملتاعا .. وبعد طول عذاب وتفكير ، رددت نفسى عن غيها ، وأخذنى النعاس ..

***

ونهضت من فراشى قبل أن تطلع الشمس .. وجاءت لى الوصيفة بالقهوة ، وحييتها تحية الصباح ، وسألتها :
ـ هل صحت الماظ هانم ..؟
ـ صحت ..! وهل نامت حتى تصحو ؟.. إنها ساهرة طول الليل ترسم ..
ـ ترسم ..؟
ـ أجل .. تعال إلى هنا وانظر ..

وتقدمت نحو النافذة المطلة على البحر .. ورأيت الماظ هانم ، جالسة ومكبة على لوحة كبيرة ، وكان ظهرها إلينا ووجهها إلى الخليج .. وكانت ترسم فى استغراق وسكون .. وترفع بصرها ، ثم ترتد به إلى اللوحة ، وفرشاتها تتحرك بين أناملها الرقيقة .. ما أجملها فى جلستها هذه .. وما أروع ما يحيط بها من مناظر ..

لقد أدركت الآن لماذا كانت ساهرة طول الليل ، ولماذا تسافر ومعها هذه الحقيبة الضخمة .. إنها ترسم فى كل مكان تنزل فيه ، وحقيبتها ملآى بمثل هذه اللوحات .. قد تكون فقيرة ووحيدة تعيش من هذا العمل ، ولكنها غنية بفنها ..

نقرت على زجاج النافذة فسمعتنى ، وتلفتت فرأتنى .. فاحمر وجهها قليلا وقالت :
ـ صحوت ..؟
ـ منذ مدة .. ولى ساعة وأنا أنظر إليك من هذا المكان ..
ـ ولم أحس بك !..
ـ أجل ..
ـ تلك مصيبة الفن على الحواس .. تعال وانظر .. إنى أرسمك ..!

وذهبت إليها ، وجلست بجوارها .. وكانت ترسم طلوع الفجر على الخليج ، ومن ورائه الربى والمروج .. وكان المنظر فى بدايته ، ولكنه كان يشعر الناظر ببراعة اليد التى رسمته ..

فقلت لها ، وأنا أنظر إلى أناملها الدقيقة :
ـ أهنئك .. إن هذا رائع ..
ـ اشكرك .. الروعة فى هذا الجمال الذى تراه حولك ..
ـ لابد أنك رسمت كثيرا من مناظر البسفور ، ما دمت شغوفة بجمال الطبيعة إلى هذا الحد ..
ـ البسفور .. هذا سحر آخر .. ولقد عشت بين رياضه .. وأنا أرسم مناظره فى كل مكان ، لأنها منقوشة فى ذاكرتى .. وقد بعت لوحتين فى بودابست أثناء رحلتى هذه .. وسأريك بعض ما بقى فى الحقيبة ..
ـ إن من لايرى البسفور لايرى الجنة ..
ـ هذا أحسن اطراء سمعته ..
ـ أنا أقول الحقيقة .. بل وأقل من الحقيقة ، وما رأيت منظرا يأخذ بلب المسافر كالبسفور .. وأتمنى على الله أن ينتهى بى المطاف إلى هناك .. وهناك أقيم إلى نهاية حياتى ، وهناك أرقد .. وليكن آخر منظر أراه هو قباب أيا صوفيا ، وهى تدور مع الشمس ..
ـ ها هى الشمس قد طلعت .. فاذهب إلى الشاطىء قبل أن يزدحم بالمصيفين .. وعندما تعود ، سأكون قد ارتديت ملابس الخروج ، وسنذهب إلى كونستنزا ..
ـ ألا تنزلين معى إلى البحر ..؟
ـ ليس الآن .. أنا متعبة جدا .. وسأستحم معك فى الأصيل ..
وقبلت يدها ونزلت إلى الشاطىء ..

***

وذهبنا إلى كونستنزا ، ورجعنا إلى الفندق بعد الظهر فتغدينا .. وتركتها لتستريح ، فقد كان النوم يداعب أجفانها .. وأيقظتها قبل الغروب بقليل .. وكانت لاتزال تشعر بتعب ، ولم تأخذ قسطها من النوم .. ونزلنا إلى البحر ، وطلعنا منه بعد أن هبط الغسق ..

ولاحظت على العشاء أن وجهها شاحب قليلا .. فأمسكت بيدها ، فإذا بها شديدة البرودة .. وجلسنا بعد العشاء نستمع للموسيقى ، وكانت هناك فرقة رباعية من فينا .. وكانت تستمع فى سكون ، ووجهها لايزال شاحبا ، ومن عينيها يبدو التعب الشديد ، فقلت لها :

ـ يجب أن تستريحى يا الماظ ..
فحولت وجهها إلىّ ، وقالت فى هدوء :
ـ أجل يا مراد .. فأنا أشعر ببرودة شديدة ..

واعتمدت على ساعدى ، ومشينا إلى غرفتها .. وفى منتصف الطريق لم تقو على السير .. وسقطت بين ذراعى ، وحملتها إلى سريرها .. وجاءت إلزا ورفيقتها لندا ، الوصيفتان فى هذا الجناح من الفندق .. وتركتهما معها ليغيرا ملابسها .. وعدت إليها بعد قليل .. وطلبت من إلزا أن تتصل بأى طبيب فى المدينة .. فسمعتنى ألماظ وأشارت إلىّ بيدها ، فاقتربت منها ، ووضعت وجهى على الفراش .. وهمست فى صوت متقطع :
ـ إننى بخير .. وقد مرت النوبة .. بسلام ..

وبقيت بجوارها ، وأنا شاعر بتعاسة مرة .. فأنا الذى حببت لها الاستحمام فى تلك الساعة .. وهى منهوكة القوى ، بعد سهر الليل بطوله فأثر ذلك على قلبها ..

وظلت ساهرة .. وبعد منتصف الليل نامت .. وأخذت أنظر إلى وجهها وهى تتنفس فى هدوء .. وإلى جسمها وقد لف فى الأغطية ..

فى الليلة الماضية .. تحت تأثير الخمر وتعب الأعصاب من السفر الطويل .. وتحت تأثير كل ما طاف فى رأسى من فكر .. ودار من هواجس .. اشتهيت هذا الجسم .. وتمنيت أن يكون لى ساعة من الزمان .. وهو الآن فى متناول يدى .. وأراه بجميع تقاطيعه وكل محاسنة .. وأضع يدى على صدرها ، وألمس ذراعها العارية ، وأنا أضم إليها الأغطية ، وأعطيها بعض المقويات .. ومع كل ذلك فشعورى الليلة غير شعورى بالأمس .. فقد سكنت ثورة العاصفة التى كانت تشتعل فى جسمى فى الليلة الماضية .. ولازمنى الليلة إحساس جديد ، فيه روحانية جارفة .. ألأنها مريضة ؟.. ألأنى أدركت سمو نفسها ؟.. ألأن صلتى بها قد توثقت واشتدت عن ذى قبل ؟ لم أكن أدرى ..

***

فتحت عينيها فى الثلث الأخير من الليل ، فرأت أنى ما زلت ساهرا ..

فقالت وهى ترتفع بجسمها قليلا :
ـ ألا تزال ساهرا ؟.. يكفيك إلى هذه الساعة ، واسترح الآن ..
ـ لن أدعك وحدك ..
ـ لن تتركنى وحدى ؟!..
ـ أبدا ..
ـ أبدا .. ؟

وأخذت أمسح بيدى على جبينها ، وألمس شعرها ، فنظرت إلىّ نظرة متكسرة فيها كل إحساسات قلبها ، وقالت وهى تحرك أناملها :
ـ أعطنى هذا المشط .. وافتح الدرج الذى تحته ، وستجد صورة مغلفة فهاتها ..

وفتحت الدرج ، وتناولت المشط .. ورجلت شعرها .. وفضت غلاف الصورة وهى تبتسم .. كانت صورتى وأنا فى القطار ..

نظرت إلى الصورة ، وأغمضت عينى .. شعرت بسعادة لاحد لها ، وخيل إلىّ أننى أسبح فى طبقات الأثير ..

وسمعتها تقول :
ـ هل استطعت أن أرسم عينيك .. وهما تلتهمان الكتاب ، وتغفلان عنى ..!

وضحكت ، وتناولت يدها .. فغمغمت :
ـ لن أدعك تتعذب ليلة أخرى .. فقد أحسست بك أمس .. وأنت تدور فى غرفتك !..

وشعرت بالخجل ، فنظرت إلىّ فى رقة وأضافت :
وسنذهب فى الصباح إلى كارمن سلفيا .. وسنعيش هناك إلى نهاية الصيف .. وسأطلق الرسم ما دمت معك .. وسنرجع إلى استانبول .. وسترى البسفور مرة أخرى وأنت معى .. وسنعيش فى هذا الفردوس إلى نهاية حياتنا ..

================================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " الذئاب الجائعة " فى عام1944
================================

دماء على الرمال ـ قصة قصيرة


دماء على الرمال

قصة محمود البدوى

بعد الساعة العاشرة صباحا .. وفى اليوم الأخير من أكتوبر كنت أبحث فى مكتبة الفنون بحى قصر النيل عن لوحة نادرة للرسام جويا .. لألهب بها مشاعرى فى فترة المعركة ..
وكانت حرب السويس مشتعلة على أشدها وطائرات الأعداء تلقى علينا القنابل فى كل ساعة .. والجمهور يقابل هذه الغارات ببسالة عديمة النظير ..
كان يسير فى حياته العادية .. كما كان قبل الحرب دون رهبة لم يتغير شىء فيه ولم يتبدل ..
وكان يفلت منه الزمام فقط فى اللحظات المثيرة عندما تحترق طائرة وتهوى .. أو يسقط طيار بالمظلة .. عندئذ ترى الجموع تنطلق وتتجمع كالروافد من الشوارع الجانبية كلها لتصب فى مكان الحادث هادرة صاخبة كالبحر الهائج الذى لا يرده شىء ..
وكانت هناك غارة وأنا فى الطريق إلى المكتبة فلما بلغتها كان الخواجه البير صاحب المكتبة يتحدث عن طيار فرنسى سقط عند مصلحة التـليفونات وحـاصره الجمهور .. ليمنـع عنـه الاعتداء حتى يصل
البوليس ..
ونهض معى البير يرينى مكان اللوحات فى الداخل ثم رجع إلى مكانه وسمعته بعد دقائق يتحدث مع سيدة بالفرنسية ويقول لها بصوته الخالى من كل انفعال :
ـ آسف يا سيدتى .. فأنا لا أشترى شيئا الآن .. عندى الكتب مكدسة .. كما ترين ..
فتلفت فوجدت سيدة فى الخامسة والعشرين من عمرها متوسطة الطول .. واقفة أمامه بجانب المدخل وبيدها ربطة صغيرة من الكتب ..
وكانت تعطينى جانبا من قوامها فلم أستطع أن أتبين منها أكثر من شعرها .. وأذنها الصغيرة والصدار الذى يطوى صدرها .. وكان الجزء الباقى من جسمها يغطيه حاجز المكتبة ..
وظلت السيدة متحيرة نصف دقيقة .. ثم استدارت نصف دورة .. وخرجت من وراء البنك .. وفى هذه اللحظة بصرت بى ..
وكانت مفاجأة تامة لها فإنها لم تكن تتوقع وجود أحد اطلاقا فى داخل المكتبة .. وفى تلك اللحظة اكتسى وجهها بتعبير هزنى .. لم أر هذا التعبير على وجه أنثى من قبل .. كان التعبير يجمع معانى الضراعة والسخط .. ولعنة الأيام ثم شيئا يتجمع ولا تتحرك به الشفتان .. وكانت العينان تلمعان دائما برغم الأسى الذى على الشفة ..
وتحولت إلى صاحب المكتبة مرة أخرى وأخذت تحادثة لمدة دقيقتين ..
وكنت أعرف أن البير فيه مكر الثعالب .. وهو يراوغ السيدة .. ويرفض الشراء منها الآن ليجعلها تعود إليه مرة أخرى وتبيع بأى ثمن ..
ولم تكن الكتب أكثر من خمس روايات بالفرنسية من طبعات رخيصة .. ولا تساوى أكثر من خمسين قرشا .. ولكن ألبير الماكر لايدع أية فرصة تفلت من يديه ..
وكنت أود أن أتقدم إلى هذه السيدة .. وأبدى لها رغبتى فى شراء هذه الكتب ولكننى قدرت أنها لا تعرف بأننى سمعت ما دار بينها وبين صاحب المكتبة من حديث .. وكنت فى الوقت نفسه لا أود أن أحرجها .. مرة أخرى وأذلها .. وأشعرها بأنى أعرف أنها فى حاجة إلى مثل هذه القروش ..
وابتعدت عنها أكثر وأكثر .. حتى لا تشعر بالخجل إن عاودت الحديث مع البير .. ودخلت فى جوف المكتبة إلى نهاية الممر المظلم ..
وعادت الصفارات تزعق مرة أخرى وأنا أنظر فى صفوف الكتب التى أمامى وأفكر فى أن الذى اخترع آلات الدمار التى تلقى علينا الآن على شكل قنابل ومفرقعات .. هو عقل بشرى متفتح دون شك .. وكان غرضه الأول هو خير الإنسانية .. ولكن الشياطين هم الذين حولوا هذه الأشياء إلى آلات للدمار تسحق الإنسان نفسه .. الذى اخترعها وقتل الروح الطيبة من البشر فيا للعجب ويا لذل الإنسان عندما يسيطر الشياطين على الموقف ويصبح فى يدهم الزمام ..
والتقطت شيئا من على الرف .. رباعيات الخيام لفيتز جيرالد .. وكل شىء هادىء فى الميدان لماريا ريمارك .. وكأنما كنت أود أن أجمع بين أعلا مراحل الشعر والنثر فى آن .. وأمسكت بالكتابين مع اللوحات الأربع التى اخترتها ..
وخرجت من الممر المظلم مرة أخرى إلى الرجل السمين الجالس إلى المكتب فى استرخاء وخمول .. وراعنى أننى وجدت السيدة التى شاهدتها من قبل لاتزال هناك .. وكانت قد وضعت الكتب جانبا .. واعتمدت براحتها على حافة المكتب .. ووقفت أمام ذلك البدين المكروش .. تحادثه .. ولعلها تتضرع إليه .. ولما اقتربت منهما سمعته يقول :
ـ يمكن أن نسأل الأستاذ ..
فقلت له :
ـ عن أى شىء ..؟
فقال بهدوء :
السيدة تسأل .. إذا كان يجب على كل شخص يقيم فى بنسيون أن يتقدم إلى مركز البوليس الواقع فى دائرته مسكنه ..؟
ـ أظن هذا مطلوبا إذا كان الشخص من رعايا الأعداء ..
ـ ومتى يتقدم ..؟
ـ فى مدة 24 ساعة ..
ولم أكن على يقين من هذا الكلام ولكننى قرأت شيئا أشبه بهذا فى إحدى الصحف ..
وكانت السيدة قد استدارت إلىَّ وواجهتنى .. فرأيتها صغيرة دقيقة التقاطيع جذابة الملامح بوجه أبيض ناصع البياض وعينين دعجاوين .. وكانت الرموش غزيرة والحواجب أشد سوادا من الشعر ..
وكان خدها يرف ويتوهج مع الضوء الساقط من شراعة الباب ..
وكانت عيناها من الرقة والنعومة والصفاء .. بحيث لم تصمدا أمام نظراتى فأطرقت برأسها أكثر من مرة وهى تحادثنى .. وكان يهمنى أن أعرف جنسيتها وما يشغل بالها خصوصا وأن السلطات لم تتخذ أى اجراء إلا مع الخطرين على الأمن ..
فحدثتنى بأنها تقيم مع عائلة أجنبية .. وقد طلبت منها هذه العائلة أن تتقدم لمركز البوليس بأوراقها .. وإلا فلن يقبلوها عندهم ..
فدخل فى حسبانى أنها يهودية وانتابنى شعور من الكراهية فى هذه اللحظة .. لم أستطع دفعه ولا مقاومته برغم جمال هذه السيدة الصارخ .. فأقصرت معها فى الحديث .. ودفعت ثمن الأشياء التى أخذتها لصاحب المكتبة .. وخرجت إلى الطريق .. وبعد خطوات وجدت هذه السيدة ورائى .. وكانت الطائرات المغيرة قد رجعت واشتد ضرب المدافع المضادة وخشيت أن تسقط علىَّ بعض القذائف .. فاحتميت تحت باكيه فى الشارع .. وجاءت السيدة وبيدها حزمة من الكتب فوقفت بجوارى .. فأخذتنى الشفقة عليها مرة أخرى ..
وسألتها بالفرنسية :
ـ هل أنت يهودية ..؟
ـ أبدا .. ان كل الناس يتصورون هذا .. أية مصيبة .. وأى عذاب ..
وأرتنى صورتها على جواز السفر .. وبجانبها شخص آخر ولا شك أنه زوجها ..
وكانت مصرية صميمة واسمها جيهان .. وسألتنى بعد أن رأتنى أطمئن :
ـ ولماذا تصورت أننى يهودية .. هل شكلى يدل على ذلك ..؟
ـ إلى حد كبير .. وفوق هذا فأنت مذعورة كاليهود تماما ..!
ـ إن هذا من سوء حظى وأنا خائفة لأنى وحيدة فى مدينة كبيرة ..
وسألتها :
ـ ولماذا تقيمين مع عائلة أجنبية .. ما دمت مصرية ..؟
ـ اننى من الإسكندرية .. وجئت إلى القاهرة منذ اسبوع .. وكانت صاحبة لى هناك قد دلتنى على هذا ( البنسيون ) .. وطبعا اخترته لأنى لا أعرف القاهرة وهذه أول مرة أضع قدمى فيها ..
ـ وقت غير مناسب للفسحة ..
ـ اننى لم آت للفسحة .. جئت أبحث عن عمل ..
ـ ووفقت ..؟
ـ أبدا ..
ـ والإنسان الذى رأيت صورته الآن فى الجواز ..؟
ـ لقد تركته .. انه متوحش ..
قالت هذا بمرارة وغضب .. واكتسى وجهها باللون الأخاذ الذى جذبنى إليها وهز مشاعرى .. اتخذ التعبير الأول الذى أسرنى .. التعبير الذى لم أره على وجه أنثى من قبل ..
وسألتها :
ـ بكم كنت تودين بيع هذه الكتب ..؟
ـ بثلاثين قرشا .. بأربعين .. أى شىء .. اننى قرأتها ولم أعد فى حاجة إليها ..
ـ سأدفع لك فيها ثلاثة جنيهات .. بشرط أن آخذ معها شيئا آخر ..
فاحمر وجهها جدا وقالت وهى تحملق فى وجهى بذعر :
ـ ليس معى شىء سواها ..
ـ أننى سآخذ شيئا بسيطا .. صورة لك ..
ـ صورة فوتوغرافية ..؟ ليس عندى صور ..
ـ صورة من رسم يدى ..
ـ حضرتك رسام ..؟
ـ أجل ..
وسهمت .. ونظرت إلى الشارع وإلى الناس .. وإلى حركة المرور والمواصلات بعد الغارة ..
وسألتنى :
ـ وأين ترسم ..؟
ـ فى مكتبى ..
ـ بعيد ..؟
ـ أبدا .. أنه على مسيرة نصف ساعة ..
ـ أرجو أن تذهب معى أولا إلى مركز البوليس .. لأننى لا أعرف أحدا .. وخائفة .. ان الذهاب إلى القسم شىء مروع ..
ـ أنت مصرية .. ولا داعى لأن تذهبى إلى القسم ولا تفكرى فى شىء من هذا ولا تخافى أبدا ..
ـ لقد كنت طائشة .. عندما أسرعت وركبت القطار وتركت بيتى .. كنت فى حالة غضب .. كنت مجنونة فى الواقع ..
ـ سأرجعك إلى بيتك .. ولا تشغلى بالك بشىء الآن .. ولا تتأسفى .. سأصلحك مع زوجك ..
ـ وهل تعرفه ..؟
ـ وهل من الضرورى أن أعرفه ..؟
ـ أبدا .. اننى مخطئة ..
واكتسى وجهها بالتعبير الذى أسرنى مرة أخرى واخترقنا حى معروف إلى شارع رمسيس .. وكانت تسير بجوارى مستسلمة ..
وعندما مر بجوارنا الأتوبيس الذاهب إلى عين شمس أركبتها معى .. فركبت وهى صامتة .. كان الجوع والوحدة ووجودها فى مدينة كبيرة لا تعرف فيها أحدا .. كل هذه الأشياء قد حطمتها تماما ..
وفى السيارة لم نتحدث إلا قليلا .. كان حديثها بالعربية فيه لكنة الأجانب .. وخشيت إن تحدثنا بالفرنسية أن يتصور الناس أنها فرنسية فى جو كان مشحونا بالكراهية للفرنسيين .. فجلسنا صامتين وكنا نستمع إلى أحاديث الناس عن الحرب دون أن نعلق عليها .. وكان فى السيارة راديو .. يذيع الأخبار فى كل لحظة ..
وكان الركاب يتحدثون عن طائرة سقطت فى الصباح بجوار كنيسة سانت فاطيما بمصر الجديدة .. وكانت الجموع تود أن تفتك بالطيار الذى هبط بالمظلة قريبا من مكان الطائرة التى احترقت ولكنها ضبطت أعصابها وسلمته حيا لرجال الشرطة ..
كما تحدث الركاب عما قليل عن طائرة سقطت قرب المرج وأخرى فى امبابة .. وطيار سقط .. قريبا من سوق التوفيقية ..
وتحدثوا عن أهل بور سعيد ومقاومتهم الباسلة للعدوان ..
وكان كل راكب يتحدث عن الحرب كأنه اشترك فيها فعلا أو كأن الميدان قد انتقل إلى الشارع الذى يسكن فيه ..
وهبطنا من السيارة قرب البيت ودفعت الباب وأدخلت السيدة جيهان أمامى .. وأغلقت وراءها باب الحديقة الصغيرة ثم دلفنا مسرعين إلى الداخل .. وأغلقت الباب ورائى بالمفتاح ..
ولاحظت السيدة جيهان أن البيت ليس فيه غيرى ..
والواقع أنه كان هناك بستانى يمر على الحديقة من حين لآخر .. وفكرت أن أستغنى عن خدماته فى فترة وجود جيهان حتى لا يراها .. ويتحدث عنها للجيران ..
وكانت هناك خادمة عجوز تأتى لتنظيف البيت فى كل صباح .. ثم تذهب ..
وكنت أتغذى فى مطعم بالقاهرة وأتعشى وأفطر فى البيت .. وانجز الأعمال الفنية التى تتطلب من الجهد الكبير فى الليل .. وأحيانا أسهر إلى الصباح ..
وكانت بهية الخادمة العجوز .. قد رأت عندى من قبل فتيات فى المرسم .. ولكننى عزمت على أن أقول لها عن جيهان أنها قريبتى .. قدمت من بور سعيد لتكون فى رعايتى بعد أن مات والدها فى الحرب ..
والواقع أن جيهان شعرت بالراحة عندما لم تجد أحدا فى البيت ..
وتغدينا من الطعام الذى كنت أضعه فى الثلاجة ..
وتركتها تستريح فى غرفة بجانب المرسم .. ونامت إلى العصر نوما عميقا .. وبدا لى أنها كانت متعبة جدا .. فما وضعت جسمها على الفراش حتى استغرقت فى النوم ..
وكنت قد وضعت لها قميصا بجانب الفراش ولكنها لم تلبسه وبقيت فى ملابسها ولم تخلع سوى الحذاء ..
وبعد أن استراحت .. كانت الشمس لاتزال طالعة .. فأبديت لها رغبتى فى أن نبدأ الرسم من الآن .. وأجلستها فى المرسم بكامل ملابسها وأخذت أرسمها حتى خيم الظلام .. وكانت ساكنة وكنت أنظر إلى وجهها الفاتن باعجاب لا حد له .. وكانت تعابير وجهها ناطقة ..
وكنت أدرك أننى عثرت على كنز ساقتنى إليه المصادفات وحدها .. وكنت أرسم وجهها بانفعال .. وضعت فيه روحى .. وكانت الفرشاة مطواعة .. وكنت بعد كل نصف ساعة أجعلها تستريح قليلا خمس دقائق أو أكثر من ذلك .. ثم أعود للعمل .. وكانت عيناها وشفتاها تلتمعان وخدها يتوهج .. تحت ضوء المصباح .. وكان يمكن أن تستمر هكذا إلى الصباح فى جلسة واحدة وأكون قد أكملت الصورة .. ولكن منعنا من الاستمرار فى العمل .. صفارة الانذار .. فأطفأت النور ..
وجلست معها فى الظلام .. نتحدث .. ولم أتحرك ولم أقترب منها .. كنت أضع كل عواطف قلبى وحسى فى طرف فرشاتى .. ولا أحب أن أطفىء هذه الشعلة المتأججة فى نفسى بأية حركة وكان المجهول الذى فيها يقربنى إليها أكثر وأكثر فلم أكن أعرف الحقيقة تماما .. وكان يحيرنى أنها لاتستطيع أن تتحدث باللهجة المصرية الدارجة .. وكل حديثها معى بالفرنسية .. لأنها اعتادت أن تتحدث بها .. وتعلمت فى مدارس أجنبية داخلية ..
وكان الظلام حولنا ثقيلا .. والمدافع تدوى بشدة .. وتحركنا إلى النافذة وجيهان بجانبى .. وكان رجال المقاومة الشعبية ببنادقهم وخوذاتهم يروحون ويغدون تحت البيت والمتاريس قائمة .. والخنادق الصغيرة محفورة فى الشارع وأكياس الرمل على النواصى وتحت الشجر .. وكمنت الدبابات الكبيرة والمدافع السريعة الطلقات وكمن رجال القناصة الذين سيتصيدون جنود المظلات ..
وكان هناك سكون أرهبنى ومنعنى حتى من أن أشعل لنفسى سيجارة وظللنا فى هذا الصمت الأخرس لمدة ساعة كاملة .. والأنوار الكاشفة تلحس السماء .. وتضىء أعالى البيوت ..
وكانت قوافل السيارات والدبابات تتحرك هناك قريبا منا فى الشارع الرئيسى متجهة إلى ميدان المعركة ..
وكنت أعجب .. لانقلاب الحال فى الليل .. فإن كل شىء كان ينقلب فى الضاحية ويوحى بأننا فى قلب الميدان ..
وسألتنى جيهان :
ـ ان الرجال كلهم يعملون للحرب ويستعدون للمعركة .. فما الذى تعمله أنت ..؟
ـ اننى أرسم اللوحات لأثير المشاعر ضد الأعداء وأبين فظاعتهم ووحشيتهم .. وسترين لوحة كبيرة ستوضع فى ميدان التحرير من عملى ..
وابتسمت ..
واشتدت الغارة .. واقتربت منا الطلقات فأغلقنا المصراع الخشبى .. وكانت جيهان تخشى أن تنام فى داخل الغرفة وحدها ..
فحركت الكنبة ونمت عليها بجوار الباب كأنى حارس لها ..
***
ولم تكن تتصور أبدا أن يكون هذا الجمال على قيد خطوة منى ولا أقترب منه .. وأن آويها وأطعمها فى بيتى ولا آخذ منها الثمن .. ولذلك نظرت إلىَّ فى الصباح بامتنان ورضى .. واطمأنت تماما .. ولما جاءت الخادمة بهية حذرت جيهان من الاسترسال معها فى الحديث بتلك اللهجة التى فيها لكنة الأجانب .. لأن الخادمة بطبعها فضولية .. كما حذرتها من الظهور فى الشرفة والحديث مع الجيران .. لأن شكلها وحديثها يوحيان بأنها أجنبية وأننى لا أحب أن أظهر أمام الجيران بأنى آوى أجنبية .. فى بيتى فى هذه الظروف الدقيقة ..
وخرجت لأتسوق بعض الأشياء .. ومر اليوم كله بسلام ..
وفى ضحى اليوم التالى علمت من الخادمة بهية أن جميع الجيران يقولون عنى أن فى بيتى فتاة يهودية ..
وتملكنى الغيظ واضطربت جدا .. ولكننى كتمت عواطفى وظهرت أمام جيهان كأنى ماسمعت شيئا .. ورأيت الناس وهم يعبرون فى الشارع يتطلعون إلينا .. ويلتصقون بالسور لينظروا إلى الداخل بفضول أزعجها ..
ورأيت أن ننصرف إلى الداخل بعيدا عن الأنظار .. فأدخلتها المرسم وأخذت أشغل نفسى بالعمل .. ولاحظت أنها ساهمة ومتغيرة وحدثتنى بما سمعته من الخادمة بهية .. فقلت لها أن بهية فضولية جدا .. وكثيرا ما تكذب وأنها ربما نسجت خيوط هذه القصة .. لغرض فى نفسها فقالت لى أنها شاهدت بعينيها أكثر من شخص يتطلع إليها .. وفى عينيه نظرة كراهية أرعبتها ..
وأخذت أبعد عن رأسها كل هذه الخواطر .. حتى أدركت أنها اقتنعت .. وتركتها بعد العمل تستريح ..
وفى الليل تعشينا ونمنا ..
***
واستيقظت على طرق الباب .. وكانت الساعة قد جاوزت نصف الليل .. ولما فتحت الباب وجدت شخصا أعرفه من الجيران .. وجاء يحدثنى بما سمعه من الناس عن وجود أجنبية فى بيتى وأن ذلك سيعرضنى للمخاطر .. فأفهمته أنه مخطىء فى ظنه وأن هذه الفتاة مصرية وقريبتى أيضا .. وانصرف الرجل .. ونظرت إلى جيهان فوجدتها متيقظة وسامعه لما دار من حديث ..
ولكن لما اقتربت منها تناومت .. وفى هدأة الفجر .. سمعت الباب الخارجى يفتح ويغلق فنهضت وأسرعت إلى فرشها فلم أجدها فيه فدفعت الباب الخارجى وأسرعت وراءها .. وسمعت وأنا أجرى صفارة الإنذار .. ودوى المدافع المضادة .. وشعرت .. بانقباض فى قلبى ..ولكننى أصبحت أعدو فى الشارع .. انطلقت بأقصى سرعتى ولمحت ثوبها من بعيد .. فجريت أكثر وأكثر لألحق بها وكانت المدافع تدوى .. وتهز كل شىء حولى ..
وسمعت انفجارا شديدا انفجارا زلزل الأرض .. ورأيت منزلا قريبا قد انقض وتراكمت انقاضه فى الشارع وجريت كالمجنون وعيناى تبحثان فى الظلام .. وفى ركن من الطريق رأيت جيهان ساقطة على الأرض وكانت قد أصيبت فى رأسها بقطعة حديد أو حجر من الذى طار من الانفجار .. ورفعتها إلى صدرى وطوقتها بشدة .. أننى لم المس هذا الجسم قط وهو حى وقدر لى أن أضمه ميتا ..
وانحنيت عليها وغمرتها بالقبلات .. وحملتها على ذراعى وأنا أنظر إلى الليل والظلام .. وكان كل ما حولى قد سكن فجأة .. سرت صامتا مسافة طويلة وأنا أحملها على صدرى ..
وكانت دماؤها الحارة تسقط على الرمال .. والسماء قد ذابت فى الشفق الأحمر ..
وكنت أرسم بقدمى على الرمال فى دائرة واسعة أعظم لوحة يمكن أن يرسمها فنان ..











=====================================
نشرت فى صحيفة المساء بالعدد 1205 بتاريخ 5/2/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1960
=====================================


السماء لا تغفل أبدا ـ قصة قصيرة

السماء لاتغفل أبدا

قصة محمود البدوى

خرجت من دائرة المطار وبيدى حقيبتى .. وكان الجو فى الخارج شديد البرودة كما توقعت ، وبدت السماء شهباء داكنة .. والثلج يتساقط بغزارة .. وأشرت لتاكسى فوقف .. وقلت لسائقه :

ـ أتعرف فندقا هادئا ورخيصا .. فى هذه المدينة ؟
ـ نعم .. وسأذهب بك إلى أجمل فندق هنا .. ولن تدفع أكثر من ثلاثين دولارا فى اليوم .

ـ إقامة كاملة ..؟
ـ بالافطار فقط ..!

ولم أستكثر المبلغ لأنى أعرف غلاء المعيشة فى الدول الأسكندنافية .. ووجدته مقبولا .. ويتحمله جيبى فى الأيام العشرة التى سأقيمها فى المدينة .. وبعد جولة طويلة فى مدينة ساكنة وقف السائق .. أمام بناية خضراء من ثلاثة طوابق .. قريبة من المحيط .. ولم يكن خلفها ولا بجوارها بناء .. حتى حسبتها قائمة وحدها على سيف البحر ..

وأمسك السائق بالحقيبة ودفع الباب الدوار .. ودخلت وراءه مسرعا لأتقى البرد والثلج الساقط ..

وكان هناك رجل متوسط الطول سمين الوجه فى مركز الاستقبال .. استقبلتنا عيناه بنظرة متأنية .. قبل أن نقف أمامه ..

وقال للسائق .. بعد محادثة قصيرة بينهما :
ـ سنعطى للسيد الغرفة 206 فى الدور الثانى مطـلة على البحـر ..

وشكرت السائق ونقدته أجره وانصرف ..

وجاءت سيدة فى رداء أزرق سابغ .. حملت الحقيبة إلى المصعد .. ولم نتحادث حتى حسبتها لاتعرف الإنجليزية وقلــت فى نفسى انها مصيبة أن نتفاهم بالاشارة من أول يوم ..

وكان معها مفتاح الغرفة .. وبعد أن فتحت الباب سلمتنى المفتاح .. ودخلت معى الغرفة وأشعلت الأنوار .. وأزاحت الستر .. ووضعت الحقيبة داخل الدولاب .. ودلتنى على الباب الصغير الداخلى الموصل للحمام .. ثم أحنت رأسها وانصرفـت وأنا أشـكرها ..

وخلعت معطفى وملفحتى .. وكل ما تدثرت به ليقينى من البرد فى الخارج .. وأخذت حماما ساخنا شعرت بعده بالراحة .. وهدوء الأعصاب .. ولكن السكون الذى طالعنى من جنبات الفندق أقلقنى بدلا من أن يريحنى .. فقد كان شديدا وخيل إلىّ أننى الوحيد المقيم فى الفندق .

وغيرت ملابسى ونزلت إلى بهو الاستقبال فى الدور الأرضى .. فلم أجد نزيلا واحدا ، وطالعنى السكون .. وشعرت بالوحشة فليس حولى إلا مقاعد وأرائك خالية ، وستر كثيفة على الأبواب والنوافذ .. رياش وطنافس يسر بها كل نزيل ، ولكنها لم تدخل البهجة إلى قلبى ..

وأزحت ستار النافذة القريبة منى لأستأنس بالمارة فى الطريق .. ولكن الثلج كان يتساقط .. ولا أرى إلا العربات تمضى سريعا .. وبعض العابرين .. يتحركون تحت الثلج .. فرادى .. رجل واحد .. وامرأة وحيدة فى دثار كامل من البرد والثلوج ..

وكان بالقرب منى فى الساحة الواسعة .. رجل على حصان .. ولم أعرف موقعه من التاريخ فما أكثر التماثيل فى هذه المدينة .

والرجل الذى استقبلنى بالحقيبة وأنا داخل .. قد حل محله موظف آخر .. سيدة طويلة بيضاء حمراء الشعر .. قد خلعت عـذارهـا .. واشتغلـت بالكتابة فى دفتر طويل أو بالرد على التليفون ..

وظللت وحيدا فى مكانى أحصى المقاعد من خشب السويد .. وأتمعن فى اللوحات على الحوائط .. وأقلب فى عناوين الصحف التى أمامى حتى أحسست بالجوع .. وكنت أود أن أسأل موظفة الاستقبال عن مطعم .. ولكنى رأيت أن أعرف ذلك بنفسى دون سؤال .. وتلفعت وأصبحت فى الطريق .

ورأيت فى البناية القريبة من الفندق مطعما .. ولكنى تركته ودخلت المدينة أحدق فى اللافتات .. وأصبحت فى الشارع الرئيسى الذى تتجمع فيه كل المتاجر .. وقرأت لافتة تشير إلى مطعم فى الدور العاشر من محل " إرما " ودون أقل تردد ركبت المصعد إلى هناك .

وكان المطعم يشغل السطح كله للبناية .. ووجدته مزدحما ولكنى أخذت مائدة جانبية أعدت لشخص واحد .. وطلبت من الطعام ما راقنى لأن العاملة كانت تجيد الإنجليزية ويسهل معها التفاهم ..

ولما فرغت من الطعام ودفعت الحساب وارتديت معطفى وتحركت إلى الصالة الطويلة .. وجدت إعلانا جذابا عن معرض الف ليلة وليلة الذى جئت من أجله .. ووجدت اسمى وصورتى مع صور الرسامين المتقدمين بعروضهم ولوحاتهم .. ووقفت طويلا أمام هذا الاعلان فقد سرنى وأبهج قلبى .. وحمدت الله الذى ساقنى إلى هذا المتجر الكبير فى اليوم الأول من وصولى .. لأرى هذا وأسر به .

ورجعت إلى الفندق وأنا أشعر بمرارة الوحدة وكآبتها .. ولكن سماعى الموسيقى الكلاسيكية من الراديو الموضوع بجانب فراشى أراح نفسى فنمت نوما عميقا .. واستيقظت فى الساعة التى يقدم فيها الإفطار فى صالة الفندق ..

وفى الساعة التاسعة صباحا رأيت عربة تقف أمام الفندق وينزل منها ثلاث فتيات صبايا وفى عمر واحد بزى واحد .. وقلت فى نفسى لقد بدأ النزلاء يهلون .. كما يهل القمر بعد ظلمة طويلة .. ولكنى أصبت بحسرة عندما عرفت أنهن من العاملات فى شركة التنظيف الخاصة بالفندق .. وأنهن جئن لتنظيف الغرف .. وكل صباح يجئن لهذا العمل .. ومعهن معداتهن الكهربائية .

ورأيت أن أتغدى فى المطعم الذى تناولت فيه طعام العشاء بالأمس .. لأرى صورتى ولوحات ألف ليلة وليلة المعلقة هناك مرة أخرى .

واتخذت طريقى إلى الخارج ، وفيما أنا أسلم المفتاح لموظفة الاستقبال فى الفندق ناولتنى بطاقة .. وكانت دعوة لحضور حفل تكريم أحد الفنانين .

وأدركت أن السيدة صاحبة المطبعة التى ستطبع الف ليلة وليلة باللغات الأجنبية هى التى أرسلت إلىّ البطاقة بعد أن اتصلت بها تليفونيا بالأمس ، وعرفتها بالفندق الذى نزلت فيه .

وكانت الحفلة فى الساعة السادسة مساء .. فهم يبكرون فى موعد الحفلات .. والبطاقة تشير إلى الشارع والمكان .. وقررت أن أركب تاكسيا يوصلنى إليه دون حاجة إلى سؤال ، ولكنى عندما قدمت البطاقة لموظفة الاستقبال قالت لى إن المكان قريب جدا إلى درجة أنى أستطيع مشاهدته من هنا .. لو خلينا البنايات .. فبضع خطوات على رصيف الفندق .. ثم دورة إلى الشمال ومثلها على نفس الطوار توصلنى إلى المنزل 26 .

ووقفت على الرصيف أقرع جرس الباب المغلق .. والمنازل كلها فى الدانمرك مغلقة الأبواب دائما فى النهار والليل .. ليس اتقاء للصوص ولكن هذه هى عادتهم .

وأطلت عينان من الدور الرابع وفتح لى الباب ودخلت وصعدت السلالم إلى الدور الأول ثم الثانى وأنا أتصور أنى أخطأت الطريق .. فليس هذا مكان حفلات تقام .. فلا حركة ولا ضجيج .. ثم وجدت علاقات المعاطف فى زاوية من الباب فخلعت معطفى وكوفيتى وأثناء هذا أقبل فوج فيه سيدة شاهدتنى وحدى .. وتبادلنا النظرات طويلا وشجعنى ذلك على سؤالها :

ـ أتعرفين الإنجليزية .. يا سيدتى ..؟
ـ نعم ..
بنعومة وابتسامة ..
ـ هل هذا مكان تكريم الفنان فيلى VILLY أم أنا أخطأت العنوان ..؟
ـ إنه هو تماما .. وتفضل بالدخول من الباب .

وكانت قد خلعت معطفها ودثارها وبدت متأنقة فياضة الحركة جذابة الملامح وفى عينيها نعاس وصحو يترجران كالزئبق .

وحدثتنى أن اسمى تردد وهم يكتبون عناوين البطاقات وصورتى عندهم فى المطبعة ، وأن السيدة صاحبة المطبعة هى التى أصرت على دعوتى لحفلة التكريم هذه لأعرف الرسامين المشهورين فى هذه البلاد .. وأختلط بهم فى مدة إقامتى القصيرة .. وأنها بعد عرض كل الرسومات التى أرسلت إليها .. أختارت رسمى لأنى الوحيد من بين الرسامين جميعا الذى عرف كيف يبرز روح " شهر زاد " فى اللوحة ويصور كل ما فيها من ذكاء وجمال وفطنة .. وهناك من رسم لوحات جميلة ومطابقة من الشرق العربى .. ولكنهم لم يبلغوا برسوماتهم مستوى فنى .. فرسمى مميز وسرت به السيدة صاحبة المطبعة كثيرا .

وشكرت السيدة مرافقتى لكل هذا الإطراء ..

وتحولنا إلى المائدة الطويلة فى وسط القاعة .. وقد رصت عليها زجاجات النبيذ والبيرة وعصير البرتقال والليـــمون .. وفاكهـة كثيرة .. وأنواع مختلفة من المكسرات ..

وكانت السيدة مرافقتى قد لازمتنى لحظات ثم استأذنت .. ولما وقف من يتكلم عن الفنان المكرم .. عادت إلى جانبى تشرح لى مضمون الكلام .. لأن المتحدث كان يتكلم بلغة البلاد .. وأشاد بالفنان المسافر وعدد مواهبه وجوانب عبقريته .

ثم أقبلنا على الطعام والشراب وشربت كثيرا من النبيذ الأحمر والأبيض وشربت السيدة مثلى حتى لاحظت أثر ذلك فى وهج عينيها وأخذ المدعون فى الانصراف ..

وسألتنى السيدة :
ـ ما الذى شاهدته فى المدينة منذ وصلت ؟
ـ لا شىء له قيمة فى الواقع ..

ـ إذن سنتجول معا .. وأمامى ساعتان أخصصهما لك .. وقد اختارتنى مدام كارين لأكون دليلتك فى الأيام التى ستقضيها هنا .. وأرجو ألا تبتئس لهذا ..!!

ـ أبتئس يا سيدتى .. كيف يكون هذا ؟ إنى أرقص من الفرح .
ـ إذن سنقوم بجولة معا .. والمدينة ساهرة فى الليل وكلها أنوار ..
ـ وقمنا بجولة فى وسط المدينة وكانت المحلات قد أغلقت أبوابها ولكنها ظلت مضاءة تعرض بضاعتها من وراء الزجاج ، وكان سكون الشارع وقلة العابرين يجعلاك تستمتع بالمشاهدة وتشعر بالراحة .

وصلنا إلى مقهى صغير هادىء يقدم الفطير والقهوة والشاى .. واخترنا مائدة فى الداخل .. وشربت القهوة وشربت مثلى .. وحكيت لها باقتضاب السبب الذى جعلنى أسافر .. وكان يمكن أن أكتفى بالبريد بعد أن أرسلت اللوحات .. ولكنى رأيت أن أستغنى عن البريد كلية وأحضر بشخصى لأرى مدينة جميلة من دول الشمال .. يسمونها باريس الصغرى .. ومن رأى باريس الكبرى لابد أن يرى باريس الصغرى .. ثم أحيى هذه السيدة التى فكرت فى طبع قصة عربية على هذه الصورة الجميلة .

وقالت مرافقتى بعد سماعها حكاية سفرى :

ـ إن السيدة كارين Karen معجبة بالشرق العربى منذ صباها .. وكانت بمصر والكثير من بلاد الشرق .. ورجعت فى آخر جولة تحمل نسخة إنجليزية قديمة نادرة من الف ليلة وليلة فى يدها .. وبعدها فكرت فى طبعها فى مطبعتها .. وقالت إن القصة عربية ويجب أن يرسم لوحاتها العرب ، لأنهم أعرف الناس ببيئتهم وأشخاصهم ، وأعلنت فى الصحف وفى المعاهد العليا للفنون وكان من نتيجة الإعلان وجودك هنا .

ـ قد لاتعرفين يا سيدتى أن هذه القصة العربية الفذة والعديمة النظير فى كل ما كتب من قصص والتى بلغت شهرتها كل آفاق الدنيا .. هذه القصة لانعرف ولا نتحقق من مؤلفها حتى الآن !

وهذه القصة هى التى فتحت الآفاق أمام الكثير من كتاب الغرب .. فكتب بوكاشيو الإيطالى الديكاميرون .

وكتبت مرجريت نافار الفرنسية " الهيتاميرون " كما تأثر بها " لامرتين " " جوته " ، وكل من كتب من شعراء وكتاب الغرب عن الشرق .. فهى التى الهبت مشاعرهم وفتحت أمامهم آفاق الخيال .

ـ لقد شوقتنى لقراءتها .. ولكن سأنتظر حتى أقرأ القصة التى فيها لوحاتك ..
ـ شكرا لكل هذا العطف ..

ونظرت فى الساعة ثم قالت ..
ـ سنتقابل غدا بعد الساعة السادسة لنذهب إلى المطبعة .. وسأتلفن لك فى الفندق قبلها .
ـ هل أطمع فى أن نتقابل قبل ذلك لنتغدى معا ؟
ـ إنى أعمل حتى الساعة السادسة مساء .. ويصعب علىّ مقابلتك قبل ذلك ..
ـ إذن نتعشى ..
ـ لابأس من هذا ..

وسررت جدا لموافقتها .. ورافقتها إلى محطة القطار الذى ستركبه إلى بيتها ويقع فى ريف كوبنهاجن .

***

والتقيت بمرافقتى فى المقهى الصغير الذى تحت محل فروك جار froijar ثم ركبنا إلى المطبعة بعد أن أعلمنا السيدة " كارين " .. بقدومنا وسرت بنا ورحبت .. وأرتنا الماكينات وعدد الطباعة الحديثة وعرضت على أجمل مطبوعاتها ..

وقالت وهى تبتسم :
ـ وسيكون الف ليلة وليلة .. أجمل وأروع من كل هذه الكتب ..
ـ بالطبع سيكون هكذا ..
ـ وقد فكرت أخيرا فى طبعة عربية فى لندن .. وستكون لوحاتك فى هذه الطبعة أيضا ..
ـ إن هذا سيجعلنى أشعر بسعادة لاحد لها ..

وجلسنا نشرب الشاى فى مكتبها الصغير الأنيق .. وقالت وهى تشير إلى مجموعة من الصور فوق المكتب .. هذا جدى .. وهذا والدى .. وهذا ابنى " انجر " الذى يعمل معى الآن .. وهم جميعا الذين أسسوا المطبعة .

ـ من دواعى الســرور أن تحتفظى بمكانتهم وصورهم هنا .
وقدمت لى كهدية بعض الروايات والقصص لكتاب من السويد والنرويج والدانمرك .. سلمى لاجرلوف .. أوجست استرندبرج .. هرمان بانج .. ألكسندر كيلاند .. أبسن .. وكلها من طبعتها باللغة الإنجليزية .

ولما تناولت اللفة .. قالت برقة :

ـ لن تحمل شيئا يا سيد " مختار " وتدور به فى المدينة .. سأرسل الكتب إلى الفندق .

وشكرتها وخرجنا أنا ومرافقتى السيدة " كوانا " لنتجول قليلا .. ثم نذهب إلى مطعم للعشاء كما اتفقنا من قبل .. وكانت قد هيأت نفسها لهذه الجولة الليلية فى أجمل ما ترتديه الأنثى فى المساء .. معطف سنجابى أنيق يضم جسمها ويبرز تقاطيعه ووشاح من الصوف دار على عنقها وزادها جمالا وفتنة .

وتعشينا فى المطعم الذى فوق المتجر .. والذى عرفتـه من قبـل ..

وقالت بعذوبة :
ـ لقد عرفت أجمل وأرخص المطاعم بسرعة .. ومن أول يوم ..
ـ كان ذلك مصــــادفة .. محض صدفة .. والبيرة جيدة هنا ..
ـ نعم جيدة .. وستجعلنا نأكل كثيرا ..!

وضحكنا وسألتنى :

ـ كم من الزمن أخذت منك هذه اللوحات ..؟
ـ قد أكون كاذبا إذا قلت انها استغرقت سنة .. الواقع انها استغرقت منى أقل من ذلك .. ورسمت بعد تفرغ ورغبة .. وكنت قد قرأت القصة .. واختلطت بمشاعرى ودمى .. ولذلك كان الرسم سهلا بعد ذلك .. رغم مشاغل الحياة والسعى وراء لقمة العيش .

ـ بالطبع نحن لانستطيع أن نتفرغ كلية .. كما فعل من كان قبلنا .. مشاغل الحياة كثيرة .

ـ انظرى وفكرى بعمق فى الرسام الذى التصق بكنيسة روما سنين وسنين ليرسم على سقفها أروع ما رسم فنان فى الوجود .. وفى الذى وهو يرسم " الموناليزا " جاء لها بفرقة موسيقية تعزف لها أجمل الألحان .. ليظل طابع الهدوء والسكون مرتسمين على وجه الفتاة وهو يرسم .

إننا لانستطيع الآن أن نكون مثلهم .. لم يكن دماغ الفنان مشغولا فى ذلك الوقت بالقنبلة النووية والهيدروجينية .. ودمار الحروب ، كان ذهنه متفرغا لعمله تماما .. كان يرسم فى سكون وتأمل وببسطة فى العيش .

ـ وأظن أنهم جميعا ولدوا فى سنين مقاربة وجاءوا فى عصر واحد .. عصر الأساتذة ..

ـ أجل فميشيل أنجلو على ما أذكر ولد سنة 1475 وهو الذى رسم سقف كنيسة روما .. وخلق الدنيا .. تصورى كيف كان تفكيره .. عندما فكر فى خلق الدنيا .. وفى آدم وحواء عندما أكلا من الشجرة وطردا من الجنة .

ـ منتـهى الهـدوء والسكينة للنفس وهى ممسكة بالفرشاة ..

ـ ثم رافائيل 1483 وروينز 1536 .. جيل العباقرة والأساتذة كما ذكرت .

وفى زماننا ظهر واحد فلتة بيكاسو ولكنه فلتة لن تتكرر . ونحن الآن نعمل وكلنا يسعى لغرض أسمى .. ولإسعاد البشرية .. ولكـن هـل تحس البشرية بعملنا .. وما تلاقيه من صعاب .. أبدا أبدا .

وقالت " جوانا " معقبة ..!

ـ والذى يجنى الثمر من تعب الفنان وكده .. هو غيره وأنت تعرف هذا أكثر منى .

ـ إن نظرة التحول طرأت على الفنون جميعا .. تبعا لصخب الحياة وضجيجها .. موسيقى الجاز .. أفلام رعاة البقر .. قنابل ومتفجرات الحروب ودخانها .. تلوثت العقول .. وانمحى صفاء الذهن .. وبعد التأمل الطويل .. وركن الناس إلى السرعة .. السرعة .. والجرى بكل ما يملكون من طاقة وراء صخب الحياة .

عفوا لقد أثقلت عليك .. من كل هذه الخطب فمعذرة .

ـ أبدا أحب أن أرى على وجهك هذه الحماسة للفنون .
ـ سـأريك شيئـا جميـلا سررت به من قبل وشاهدته مصادفة هنا ..
ـ ما هو ..؟
ـ لوحات من الف ليلة وليلة معلقة فى صالة المتجر .
ـ هذا هو من نشاط مدام " كارين " إنها نشطة جدا فى الإعلان .. ولولا الإعلان ما جئت أنت إلى هنا ..!
ـ وسترين صورتى وبعضا من لوحاتى .. ونحن فى الطريق إلى الصالة .

ورأت السرور على وجهى فابتسمت ونزلنا بالمصعد إلى الطريق وودعتها فى القطار الذاهبة به إلى بيتها .

***

وفى الصباح التالى اتصلت بى تليفونيا فى الفندق .. وقالت برقة :

ـ سنتقابل اليوم فى السادسة والنصف مساء بعد انتهاء عملى .. وسنتعشى معا .. وأنا صاحبة الدعوة !

ـ وأقبل بسرور ..!

ـ سيكون اللقاء فى المقهى الصغير الذى شربنا فيه القهوة بالأمس .

ـ سأكون هناك قبل الموعد بساعة !

وتعشينا أنا و"جوانا " فى مطعم اختارته هى .. وشربنا مع الطعام الكثير من البيرة .. وخرجنا نتجول فى المدينة .. وأصبحنا نخرج من ميدان إلى ميدان .. ومن شارع إلى شارع .. وأنا أقول لها :

ـ ألا تشعرين بالتعب .. ألا نركب سيارة ؟
ـ أبدا أنا أحب أن أريك أجمل ما فى المدينة فى الليل .
وكنا نتجه إلى الميناء .. ووجدنا ملهى طالعنا منه السكون .

فهبطنا إليه .. واتخذنا زاوية ركنية .. وطلبنا النبيذ وجلسنا نشرب .. ونستمتع بالموسيقى والرقص .. ثم أقبل فوج من البحارة وكنا فى ظهر الميناء .. فدخلوا الملهى وأخذوا يشربون ويعربدون .. وكانوا من أجناس مختلفة من الإنجليز ومن بحارة الشمال .. وكنت أود أن نخرج من المكان بمجرد دخولهم ولكنى خشيت أن تتصور أنى خفت منهم .. فبقينا كما كنا ..

وكان همهم كله الرقص والغناء بصوت كريه .

وأقبل بحار تجاه مائدتنا وقال بأدب :

ـ هل تسمح لى السيدة برقصة ..

ورددت أنا على الفور قبل أن أعطيها الفرصة للرد بالقبول أو الرفض ..

ـ السيدة لاتعرف الرقص ..
ـ أتوجد سيدة أوربية لاتعرف الرقص ؟
باستغراب شديد ..

ـ أجل توجد وأرجو أن تنصرف .

وهم بأن يمسك السيدة من ذراعها .. فلكمته بجمع يدى فذهب يترنح وسقط على مائدة مجاورة وشعرت بلكمة على صدغى ولم أر من فعلها .

وتكهرب الموقف وجاء اثنان من عمال الملهى فوقفا بيننا وبين من تحرك من البحارة ، وكان صاحب الملهى قد طلب البوليس فدخل سريعا .

وقالت بسرعة :
ـ لنخرج .
فقلت لها :
ـ سنخرج ولكن ليس فى حركة الهارب أو الجبان .
ـ أعجب لموقفك وأنت الغريب ..!

وبعد دقائق أمسكت بيدها وخرجنا .. فإذا بالمطر يتساقط بغـزارة والريح تعصـف ولم نكن مستعدين بملابسنا للمطر فقلت لها :

ـ إن الفندق على بعد خطوات من هنا .. وهو أحسن مكان يأوينا .. حتى ينقشع المطر .

فلم ترد واتجهنا إلى الفندق مسرعين .

ولم ينفعنا الجلوس فى البهو لأن معاطفنا كانت مبللة .. فصعدنا إلى غرفتى وخلعنا معطفينا ووضعناهما على المناشف الكهربائية المعدة للفوط ليجفا من الماء ..

وكان صدارها الصوفى الذى تحت المعطف قد أصابه البلل أيضا .. ولكنى خجلت أن أقول لها اخلعيه ليجف وإلا سيصيبك البرد والزكام وأكون أنا السبب . وتحسسته بيدها ثم أبقتــه كما كان . ولعلها راودت نفسها على خلعه ثم عدلت .

وقالت وعلى وجهها الأسى :

ـ كيف حدث كل هذا ؟ إنى أتعجب ..؟
ـ إن بلدكم هادىء وجميل .. وأهله بسطاء ومن أطيب الناس وأحسنهم خلقا .. ولكن المتاعب تأتيكم دوما من الغرباء عنكم ..

ـ هذا حق .. والخنزير الذى لكمك لم أره .. وإلا لكنت .. وإلا لكنت ..

ونظرت اليها وهى منفعلة .. وأحببتها فى هذه اللحظة كما لم يحب رجل امرأة فى حياته .. وشعرت بالخجل لكل ما حدث ..

وقلت وأنا أنظر إلى عينيها :
ـ سنشرب .. عندى كونياك .. هنا ..
ـ لقد شربنا كثيرا .. يا مختار ..
ـ ولنشـرب أكـثر .. لنتقى البرد وأنت خارجة .. وانسى ما حـدث .. لقد كنت السبب فى احراجك الليلة ..
ـ كيف تفكر هكذا يا مختار .. وأنت الغريب عن البلد .. ولا تعرف فى أى ملهى كنا وأخذنا نشرب ..

وقالت وقد تضرج وجهها :
ـ هل كانت شهر زاد جميلة إلى هذا الحد الذى رسمته فى اللوحة ؟
ـ أعتقد هذا بعد كل ما قرأته عنها .. وأنها كانت أجمل من كل رسم ..
ـ وذكية ..؟
ـ جدا .. ذكاء مفرط .. انظرى كيف كانت تختار الجمل .. وكيف كانت تتوقف عند جملة بعينها .. بعد أن يبلغ شهريار مداه من التشوق واللهفة إلى سماع باقى القصة .. فى هذه اللحظة كانت تتوقف عن السرد .. وتتركه يتمرغ فى شوقه إلى الليالى التالية ..
ـ لقد رسمتها وأنت تحبها إذن ..؟
ـ أجل وستحبينها أنت أكثر منى .. إذا قرأت القصة ..

وحدث شىء جعلنا نقطع الحديث .. فقد أخذ الدم يتساقط من أنفى .. حدث هذا فجأة .. وحدث فى دفء الغرفة والشراب .. وكان الدم قد حبسه البرد الشديد فى الخارج ولكنه انطلق الآن ..

ودخلت الحمام أغسل الدم .. ودخلت ورائى ..

وقالت بلوعة :
ـ أفكر فى الطبيب بسرعة .. والطبيب هنا لايوجد إلا فى المستشفى ..
ـ لاداعى لطبيب أو مستشـفى .. الدم سينقطـع حالا بالماء البارد .

وأمسكت بالفوطة وبللتها بالماء وأخذت أمسح الدم .. وتناولت الفوطة من يدى .. وحركت كفها بنعومة ..

فقلت لها وأنا شاعر بالراحة .. !
ـ هــذه أول أنامل لأنثى تمسح آلامى وأشعر بها فى حياتى ..
ـ كيف هذا .. وزوجتك ..؟
ـ تزوجت مرة واحدة .. وفشلت .. وعدلت عن الزواج كلية بعد هذه التجربة .. فليس عندى من الأعصاب ما يحتمل ترويض الأنثى .. أنا قلق ولا أثبت على حال ..

ـ أنت فنــان ولوحاتك تعبر عن الصبر الطويل وليس القلق ..
ـ ولكنى كنت قلقا وعصبيا معها فاعذرينى ..
ـ وجهك بملامحه يبدو عليه الهدوء وسكينة النفس .. ولكن من عينيك يطل الحزن .. وأدركت هذا من الصورة التى بعثتها إلينا مع لوحتك .. فما سبب هذا الحزن ..؟

ـ أشعر فى أعماقى بالتعاسة .. والقلق ..
ـ هذا ما يشعر به كل فنان .. فلا تروع نفسك ..
ـ ولكنى مروع .. وأخاف دائما من شىء مجهول لا أعرف متى يأتى ..!!
ـ لاتجعلنى أضحك .. أنت فى رونق شبابك .. وهذه حالة مرضية فأبعدها عن رأسك ..
ـ ولكنها موجودة .. فما حيلتى ..!
ـ أنظر انقطع الدم تماما ..
ـ سأقبل اليد التى مسحت عليه .. وكانت السبب ..

وقبلت يدها وعينيها .. وضممتها إلى صدرى ورحنا فى عناق طويل .. غبنا فيه عن الغرفة .. والفندق والزمان والمكان بل عن الوجود كله .

***

وارتدت ملابسها التى جفت وأكملت زينتها وتهيأت للرواح .. وكانت تود أن تذهب وحدها إلى قطار الضواحى الذى سيحملها إلى بيتها .. ولكنى أصررت على مرافقتها ..

وخرجنا والليل متجل وفى قمة جماله وصحوه .. كما تتجلى العروس .. والمدينة ساكنة وأنوارها تتلألأ .. ودخلنا المحطة وكانت خالية إلا بالقليل من الركاب .. فقد قارب الليل إن ينتصف .. ورأينا رجلا يترنح تحت الرصيف والجو أخذ يثلج .. ونظرت إليه وقالت بمكر ..

ـ هل كانت شهر زاد سكرى الليلة فى الفندق ..؟
ـ أبدا .. ولا كان شهريار سكرانا ..!
ـ وما حدث ..؟!
ـ لابد من حدوثه ..

وارتسم على وجهها حنان لم أر مثله على وجه أنثى ..

وسمعنا صوت القطار داخل المحطة .. فقالت :
ـ أقبل القطار .. وسأريك قطع التذكرة ..

وأخذت ترينى الطريقة فى الآلة الأتوماتيكية المخصصة للتذاكر ..
وقلت لها :
ـ إننى من الغباء بحيث يصعب علىّ التعلم من أول مرة ..
ـ سأكرر الطريقة ..
ـ وتخسرين نقودا ..
ـ لا يهم ..
ـ أو أحسن أن أركب من غير تذكرة .. ويغرمنى الكمسارى .. بدلا من كل هذا التعب ..
ـ لن يغرمك الكمسارى ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنه يعرف أنك فنان .. ومهذب .. ووجهك ضاحك ..!!
وقبلت يدها .. ودخلت القطار .

***

وفى الصباح عرفت الطريق إلى المحطة وركبت نفس القطار .

واستقبلتنى جوانا على المحطة التى فيها بيتها .. وكان اليوم من أيام الأحد وهو عطلة .. فتحركت بحريتها وأرتنى الريف .. ببهجته وجماله وأزهاره وحدائقه ومزارعه الصغيرة .. وفيلاته الخضراء .. من طابقين بسقوفها المحدودبة والثلج يغطيها والبرد يلفها والعصافير تزقزق فى أركانها .. والطرق كلها بيضاء كنتف القطن ..

وبعد جولة طويلة بين الفيلات والثلج يتساقط والشمس غائبة .. شربنا الشاى وأكلنا الفطير فى شرفتها المطلة على المزارع ..

وقالت :
ـ سنقوم بجولة أخرى بعد أن يخف سقوط المطر .. وسأريك كلية الفنون .. وسترى هناك لوحات الشباب من كل أجناس الأرض .. وستمر بها وتعجب بهذه المواهب المتفتحة للحياة ..
ـ يسعدنى هذا ..
ـ وسنتغدى هنا ..
ـ ونتغدى هنا ..!

فابتسمـت واكتسى وجهها بلـون الأرجوان .. لموافقتى السريعة .

وقالت وهى تنهض وعلى وجهها البشر ..

ـ إنك حتى هذه اللحظة .. لم تر زوجى .. فتعال لأقدمك إليه ..

وتحركت وراءها إلى الدور الأول من الفيلا ..

وفى قاعة جميلة زينت بالكتب واللوحات والتماثيل الصغيرة .. قادتنى إلى ركن خفيف الضوء ..

وقالت برقة :
ـ سلم على زوجى ..

وكان الرجل يجلس بكامل هندامه على كرسى متحرك ..
وشعرت بيدى وأنا أحاول مدها إليه كأنها تحمل أطنانا من الحديد المحمى .. وعجزت عن تحريكها ..

وهبت العاصفة بكل ثقلها فجأة ..

وانحنيت وقبلت رأسه ..

وأدركت هى ما حل بى .. فأدارت رأسها وغالبت عبراتها .. وخرجت مسرعة من الغرفة .. وجلست بجوار الرجل وأنا مشلول الذراع صامت أخرس والدنيا تدور بكل ثقلها وأوزارها وتحط على صدرى .
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو المصرية بتاريخ 431985 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص قصيرة " لمحمود البدوى عام 2000
=================================
السيد الأستاذ رئيس التحرير
تحية طيبة
أرسل اليكم قصة لوالدى أديب مصر الكبير الراحل محمود البدوى
مع خالص الشكر والتحية
ليلى محمود البدوى


السماء لاتغفل أبدا

قصة محمود البدوى

خرجت من دائرة المطار وبيدى حقيبتى .. وكان الجو فى الخارج شديد البرودة كما توقعت ، وبدت السماء شهباء داكنة .. والثلج يتساقط بغزارة .. وأشرت لتاكسى فوقف .. وقلت لسائقه :

ـ أتعرف فندقا هادئا ورخيصا .. فى هذه المدينة ؟
ـ نعم .. وسأذهب بك إلى أجمل فندق هنا .. ولن تدفع أكثر من ثلاثين دولارا فى اليوم .

ـ إقامة كاملة ..؟
ـ بالافطار فقط ..!

ولم أستكثر المبلغ لأنى أعرف غلاء المعيشة فى الدول الأسكندنافية .. ووجدته مقبولا .. ويتحمله جيبى فى الأيام العشرة التى سأقيمها فى المدينة .. وبعد جولة طويلة فى مدينة ساكنة وقف السائق .. أمام بناية خضراء من ثلاثة طوابق .. قريبة من المحيط .. ولم يكن خلفها ولا بجوارها بناء .. حتى حسبتها قائمة وحدها على سيف البحر ..

وأمسك السائق بالحقيبة ودفع الباب الدوار .. ودخلت وراءه مسرعا لأتقى البرد والثلج الساقط ..

وكان هناك رجل متوسط الطول سمين الوجه فى مركز الاستقبال .. استقبلتنا عيناه بنظرة متأنية .. قبل أن نقف أمامه ..

وقال للسائق .. بعد محادثة قصيرة بينهما :
ـ سنعطى للسيد الغرفة 206 فى الدور الثانى مطـلة على البحـر ..

وشكرت السائق ونقدته أجره وانصرف ..

وجاءت سيدة فى رداء أزرق سابغ .. حملت الحقيبة إلى المصعد .. ولم نتحادث حتى حسبتها لاتعرف الإنجليزية وقلــت فى نفسى انها مصيبة أن نتفاهم بالاشارة من أول يوم ..

وكان معها مفتاح الغرفة .. وبعد أن فتحت الباب سلمتنى المفتاح .. ودخلت معى الغرفة وأشعلت الأنوار .. وأزاحت الستر .. ووضعت الحقيبة داخل الدولاب .. ودلتنى على الباب الصغير الداخلى الموصل للحمام .. ثم أحنت رأسها وانصرفـت وأنا أشـكرها ..

وخلعت معطفى وملفحتى .. وكل ما تدثرت به ليقينى من البرد فى الخارج .. وأخذت حماما ساخنا شعرت بعده بالراحة .. وهدوء الأعصاب .. ولكن السكون الذى طالعنى من جنبات الفندق أقلقنى بدلا من أن يريحنى .. فقد كان شديدا وخيل إلىّ أننى الوحيد المقيم فى الفندق .

وغيرت ملابسى ونزلت إلى بهو الاستقبال فى الدور الأرضى .. فلم أجد نزيلا واحدا ، وطالعنى السكون .. وشعرت بالوحشة فليس حولى إلا مقاعد وأرائك خالية ، وستر كثيفة على الأبواب والنوافذ .. رياش وطنافس يسر بها كل نزيل ، ولكنها لم تدخل البهجة إلى قلبى ..

وأزحت ستار النافذة القريبة منى لأستأنس بالمارة فى الطريق .. ولكن الثلج كان يتساقط .. ولا أرى إلا العربات تمضى سريعا .. وبعض العابرين .. يتحركون تحت الثلج .. فرادى .. رجل واحد .. وامرأة وحيدة فى دثار كامل من البرد والثلوج ..

وكان بالقرب منى فى الساحة الواسعة .. رجل على حصان .. ولم أعرف موقعه من التاريخ فما أكثر التماثيل فى هذه المدينة .

والرجل الذى استقبلنى بالحقيبة وأنا داخل .. قد حل محله موظف آخر .. سيدة طويلة بيضاء حمراء الشعر .. قد خلعت عـذارهـا .. واشتغلـت بالكتابة فى دفتر طويل أو بالرد على التليفون ..

وظللت وحيدا فى مكانى أحصى المقاعد من خشب السويد .. وأتمعن فى اللوحات على الحوائط .. وأقلب فى عناوين الصحف التى أمامى حتى أحسست بالجوع .. وكنت أود أن أسأل موظفة الاستقبال عن مطعم .. ولكنى رأيت أن أعرف ذلك بنفسى دون سؤال .. وتلفعت وأصبحت فى الطريق .

ورأيت فى البناية القريبة من الفندق مطعما .. ولكنى تركته ودخلت المدينة أحدق فى اللافتات .. وأصبحت فى الشارع الرئيسى الذى تتجمع فيه كل المتاجر .. وقرأت لافتة تشير إلى مطعم فى الدور العاشر من محل " إرما " ودون أقل تردد ركبت المصعد إلى هناك .

وكان المطعم يشغل السطح كله للبناية .. ووجدته مزدحما ولكنى أخذت مائدة جانبية أعدت لشخص واحد .. وطلبت من الطعام ما راقنى لأن العاملة كانت تجيد الإنجليزية ويسهل معها التفاهم ..

ولما فرغت من الطعام ودفعت الحساب وارتديت معطفى وتحركت إلى الصالة الطويلة .. وجدت إعلانا جذابا عن معرض الف ليلة وليلة الذى جئت من أجله .. ووجدت اسمى وصورتى مع صور الرسامين المتقدمين بعروضهم ولوحاتهم .. ووقفت طويلا أمام هذا الاعلان فقد سرنى وأبهج قلبى .. وحمدت الله الذى ساقنى إلى هذا المتجر الكبير فى اليوم الأول من وصولى .. لأرى هذا وأسر به .

ورجعت إلى الفندق وأنا أشعر بمرارة الوحدة وكآبتها .. ولكن سماعى الموسيقى الكلاسيكية من الراديو الموضوع بجانب فراشى أراح نفسى فنمت نوما عميقا .. واستيقظت فى الساعة التى يقدم فيها الإفطار فى صالة الفندق ..

وفى الساعة التاسعة صباحا رأيت عربة تقف أمام الفندق وينزل منها ثلاث فتيات صبايا وفى عمر واحد بزى واحد .. وقلت فى نفسى لقد بدأ النزلاء يهلون .. كما يهل القمر بعد ظلمة طويلة .. ولكنى أصبت بحسرة عندما عرفت أنهن من العاملات فى شركة التنظيف الخاصة بالفندق .. وأنهن جئن لتنظيف الغرف .. وكل صباح يجئن لهذا العمل .. ومعهن معداتهن الكهربائية .

ورأيت أن أتغدى فى المطعم الذى تناولت فيه طعام العشاء بالأمس .. لأرى صورتى ولوحات ألف ليلة وليلة المعلقة هناك مرة أخرى .

واتخذت طريقى إلى الخارج ، وفيما أنا أسلم المفتاح لموظفة الاستقبال فى الفندق ناولتنى بطاقة .. وكانت دعوة لحضور حفل تكريم أحد الفنانين .

وأدركت أن السيدة صاحبة المطبعة التى ستطبع الف ليلة وليلة باللغات الأجنبية هى التى أرسلت إلىّ البطاقة بعد أن اتصلت بها تليفونيا بالأمس ، وعرفتها بالفندق الذى نزلت فيه .

وكانت الحفلة فى الساعة السادسة مساء .. فهم يبكرون فى موعد الحفلات .. والبطاقة تشير إلى الشارع والمكان .. وقررت أن أركب تاكسيا يوصلنى إليه دون حاجة إلى سؤال ، ولكنى عندما قدمت البطاقة لموظفة الاستقبال قالت لى إن المكان قريب جدا إلى درجة أنى أستطيع مشاهدته من هنا .. لو خلينا البنايات .. فبضع خطوات على رصيف الفندق .. ثم دورة إلى الشمال ومثلها على نفس الطوار توصلنى إلى المنزل 26 .

ووقفت على الرصيف أقرع جرس الباب المغلق .. والمنازل كلها فى الدانمرك مغلقة الأبواب دائما فى النهار والليل .. ليس اتقاء للصوص ولكن هذه هى عادتهم .

وأطلت عينان من الدور الرابع وفتح لى الباب ودخلت وصعدت السلالم إلى الدور الأول ثم الثانى وأنا أتصور أنى أخطأت الطريق .. فليس هذا مكان حفلات تقام .. فلا حركة ولا ضجيج .. ثم وجدت علاقات المعاطف فى زاوية من الباب فخلعت معطفى وكوفيتى وأثناء هذا أقبل فوج فيه سيدة شاهدتنى وحدى .. وتبادلنا النظرات طويلا وشجعنى ذلك على سؤالها :

ـ أتعرفين الإنجليزية .. يا سيدتى ..؟
ـ نعم ..
بنعومة وابتسامة ..
ـ هل هذا مكان تكريم الفنان فيلى VILLY أم أنا أخطأت العنوان ..؟
ـ إنه هو تماما .. وتفضل بالدخول من الباب .

وكانت قد خلعت معطفها ودثارها وبدت متأنقة فياضة الحركة جذابة الملامح وفى عينيها نعاس وصحو يترجران كالزئبق .

وحدثتنى أن اسمى تردد وهم يكتبون عناوين البطاقات وصورتى عندهم فى المطبعة ، وأن السيدة صاحبة المطبعة هى التى أصرت على دعوتى لحفلة التكريم هذه لأعرف الرسامين المشهورين فى هذه البلاد .. وأختلط بهم فى مدة إقامتى القصيرة .. وأنها بعد عرض كل الرسومات التى أرسلت إليها .. أختارت رسمى لأنى الوحيد من بين الرسامين جميعا الذى عرف كيف يبرز روح " شهر زاد " فى اللوحة ويصور كل ما فيها من ذكاء وجمال وفطنة .. وهناك من رسم لوحات جميلة ومطابقة من الشرق العربى .. ولكنهم لم يبلغوا برسوماتهم مستوى فنى .. فرسمى مميز وسرت به السيدة صاحبة المطبعة كثيرا .

وشكرت السيدة مرافقتى لكل هذا الإطراء ..

وتحولنا إلى المائدة الطويلة فى وسط القاعة .. وقد رصت عليها زجاجات النبيذ والبيرة وعصير البرتقال والليـــمون .. وفاكهـة كثيرة .. وأنواع مختلفة من المكسرات ..

وكانت السيدة مرافقتى قد لازمتنى لحظات ثم استأذنت .. ولما وقف من يتكلم عن الفنان المكرم .. عادت إلى جانبى تشرح لى مضمون الكلام .. لأن المتحدث كان يتكلم بلغة البلاد .. وأشاد بالفنان المسافر وعدد مواهبه وجوانب عبقريته .

ثم أقبلنا على الطعام والشراب وشربت كثيرا من النبيذ الأحمر والأبيض وشربت السيدة مثلى حتى لاحظت أثر ذلك فى وهج عينيها وأخذ المدعون فى الانصراف ..

وسألتنى السيدة :
ـ ما الذى شاهدته فى المدينة منذ وصلت ؟
ـ لا شىء له قيمة فى الواقع ..

ـ إذن سنتجول معا .. وأمامى ساعتان أخصصهما لك .. وقد اختارتنى مدام كارين لأكون دليلتك فى الأيام التى ستقضيها هنا .. وأرجو ألا تبتئس لهذا ..!!

ـ أبتئس يا سيدتى .. كيف يكون هذا ؟ إنى أرقص من الفرح .
ـ إذن سنقوم بجولة معا .. والمدينة ساهرة فى الليل وكلها أنوار ..
ـ وقمنا بجولة فى وسط المدينة وكانت المحلات قد أغلقت أبوابها ولكنها ظلت مضاءة تعرض بضاعتها من وراء الزجاج ، وكان سكون الشارع وقلة العابرين يجعلاك تستمتع بالمشاهدة وتشعر بالراحة .

وصلنا إلى مقهى صغير هادىء يقدم الفطير والقهوة والشاى .. واخترنا مائدة فى الداخل .. وشربت القهوة وشربت مثلى .. وحكيت لها باقتضاب السبب الذى جعلنى أسافر .. وكان يمكن أن أكتفى بالبريد بعد أن أرسلت اللوحات .. ولكنى رأيت أن أستغنى عن البريد كلية وأحضر بشخصى لأرى مدينة جميلة من دول الشمال .. يسمونها باريس الصغرى .. ومن رأى باريس الكبرى لابد أن يرى باريس الصغرى .. ثم أحيى هذه السيدة التى فكرت فى طبع قصة عربية على هذه الصورة الجميلة .

وقالت مرافقتى بعد سماعها حكاية سفرى :

ـ إن السيدة كارين Karen معجبة بالشرق العربى منذ صباها .. وكانت بمصر والكثير من بلاد الشرق .. ورجعت فى آخر جولة تحمل نسخة إنجليزية قديمة نادرة من الف ليلة وليلة فى يدها .. وبعدها فكرت فى طبعها فى مطبعتها .. وقالت إن القصة عربية ويجب أن يرسم لوحاتها العرب ، لأنهم أعرف الناس ببيئتهم وأشخاصهم ، وأعلنت فى الصحف وفى المعاهد العليا للفنون وكان من نتيجة الإعلان وجودك هنا .

ـ قد لاتعرفين يا سيدتى أن هذه القصة العربية الفذة والعديمة النظير فى كل ما كتب من قصص والتى بلغت شهرتها كل آفاق الدنيا .. هذه القصة لانعرف ولا نتحقق من مؤلفها حتى الآن !

وهذه القصة هى التى فتحت الآفاق أمام الكثير من كتاب الغرب .. فكتب بوكاشيو الإيطالى الديكاميرون .

وكتبت مرجريت نافار الفرنسية " الهيتاميرون " كما تأثر بها " لامرتين " " جوته " ، وكل من كتب من شعراء وكتاب الغرب عن الشرق .. فهى التى الهبت مشاعرهم وفتحت أمامهم آفاق الخيال .

ـ لقد شوقتنى لقراءتها .. ولكن سأنتظر حتى أقرأ القصة التى فيها لوحاتك ..
ـ شكرا لكل هذا العطف ..

ونظرت فى الساعة ثم قالت ..
ـ سنتقابل غدا بعد الساعة السادسة لنذهب إلى المطبعة .. وسأتلفن لك فى الفندق قبلها .
ـ هل أطمع فى أن نتقابل قبل ذلك لنتغدى معا ؟
ـ إنى أعمل حتى الساعة السادسة مساء .. ويصعب علىّ مقابلتك قبل ذلك ..
ـ إذن نتعشى ..
ـ لابأس من هذا ..

وسررت جدا لموافقتها .. ورافقتها إلى محطة القطار الذى ستركبه إلى بيتها ويقع فى ريف كوبنهاجن .

***

والتقيت بمرافقتى فى المقهى الصغير الذى تحت محل فروك جار froijar ثم ركبنا إلى المطبعة بعد أن أعلمنا السيدة " كارين " .. بقدومنا وسرت بنا ورحبت .. وأرتنا الماكينات وعدد الطباعة الحديثة وعرضت على أجمل مطبوعاتها ..

وقالت وهى تبتسم :
ـ وسيكون الف ليلة وليلة .. أجمل وأروع من كل هذه الكتب ..
ـ بالطبع سيكون هكذا ..
ـ وقد فكرت أخيرا فى طبعة عربية فى لندن .. وستكون لوحاتك فى هذه الطبعة أيضا ..
ـ إن هذا سيجعلنى أشعر بسعادة لاحد لها ..

وجلسنا نشرب الشاى فى مكتبها الصغير الأنيق .. وقالت وهى تشير إلى مجموعة من الصور فوق المكتب .. هذا جدى .. وهذا والدى .. وهذا ابنى " انجر " الذى يعمل معى الآن .. وهم جميعا الذين أسسوا المطبعة .

ـ من دواعى الســرور أن تحتفظى بمكانتهم وصورهم هنا .
وقدمت لى كهدية بعض الروايات والقصص لكتاب من السويد والنرويج والدانمرك .. سلمى لاجرلوف .. أوجست استرندبرج .. هرمان بانج .. ألكسندر كيلاند .. أبسن .. وكلها من طبعتها باللغة الإنجليزية .

ولما تناولت اللفة .. قالت برقة :

ـ لن تحمل شيئا يا سيد " مختار " وتدور به فى المدينة .. سأرسل الكتب إلى الفندق .

وشكرتها وخرجنا أنا ومرافقتى السيدة " كوانا " لنتجول قليلا .. ثم نذهب إلى مطعم للعشاء كما اتفقنا من قبل .. وكانت قد هيأت نفسها لهذه الجولة الليلية فى أجمل ما ترتديه الأنثى فى المساء .. معطف سنجابى أنيق يضم جسمها ويبرز تقاطيعه ووشاح من الصوف دار على عنقها وزادها جمالا وفتنة .

وتعشينا فى المطعم الذى فوق المتجر .. والذى عرفتـه من قبـل ..

وقالت بعذوبة :
ـ لقد عرفت أجمل وأرخص المطاعم بسرعة .. ومن أول يوم ..
ـ كان ذلك مصــــادفة .. محض صدفة .. والبيرة جيدة هنا ..
ـ نعم جيدة .. وستجعلنا نأكل كثيرا ..!

وضحكنا وسألتنى :

ـ كم من الزمن أخذت منك هذه اللوحات ..؟
ـ قد أكون كاذبا إذا قلت انها استغرقت سنة .. الواقع انها استغرقت منى أقل من ذلك .. ورسمت بعد تفرغ ورغبة .. وكنت قد قرأت القصة .. واختلطت بمشاعرى ودمى .. ولذلك كان الرسم سهلا بعد ذلك .. رغم مشاغل الحياة والسعى وراء لقمة العيش .

ـ بالطبع نحن لانستطيع أن نتفرغ كلية .. كما فعل من كان قبلنا .. مشاغل الحياة كثيرة .

ـ انظرى وفكرى بعمق فى الرسام الذى التصق بكنيسة روما سنين وسنين ليرسم على سقفها أروع ما رسم فنان فى الوجود .. وفى الذى وهو يرسم " الموناليزا " جاء لها بفرقة موسيقية تعزف لها أجمل الألحان .. ليظل طابع الهدوء والسكون مرتسمين على وجه الفتاة وهو يرسم .

إننا لانستطيع الآن أن نكون مثلهم .. لم يكن دماغ الفنان مشغولا فى ذلك الوقت بالقنبلة النووية والهيدروجينية .. ودمار الحروب ، كان ذهنه متفرغا لعمله تماما .. كان يرسم فى سكون وتأمل وببسطة فى العيش .

ـ وأظن أنهم جميعا ولدوا فى سنين مقاربة وجاءوا فى عصر واحد .. عصر الأساتذة ..

ـ أجل فميشيل أنجلو على ما أذكر ولد سنة 1475 وهو الذى رسم سقف كنيسة روما .. وخلق الدنيا .. تصورى كيف كان تفكيره .. عندما فكر فى خلق الدنيا .. وفى آدم وحواء عندما أكلا من الشجرة وطردا من الجنة .

ـ منتـهى الهـدوء والسكينة للنفس وهى ممسكة بالفرشاة ..

ـ ثم رافائيل 1483 وروينز 1536 .. جيل العباقرة والأساتذة كما ذكرت .

وفى زماننا ظهر واحد فلتة بيكاسو ولكنه فلتة لن تتكرر . ونحن الآن نعمل وكلنا يسعى لغرض أسمى .. ولإسعاد البشرية .. ولكـن هـل تحس البشرية بعملنا .. وما تلاقيه من صعاب .. أبدا أبدا .

وقالت " جوانا " معقبة ..!

ـ والذى يجنى الثمر من تعب الفنان وكده .. هو غيره وأنت تعرف هذا أكثر منى .

ـ إن نظرة التحول طرأت على الفنون جميعا .. تبعا لصخب الحياة وضجيجها .. موسيقى الجاز .. أفلام رعاة البقر .. قنابل ومتفجرات الحروب ودخانها .. تلوثت العقول .. وانمحى صفاء الذهن .. وبعد التأمل الطويل .. وركن الناس إلى السرعة .. السرعة .. والجرى بكل ما يملكون من طاقة وراء صخب الحياة .

عفوا لقد أثقلت عليك .. من كل هذه الخطب فمعذرة .

ـ أبدا أحب أن أرى على وجهك هذه الحماسة للفنون .
ـ سـأريك شيئـا جميـلا سررت به من قبل وشاهدته مصادفة هنا ..
ـ ما هو ..؟
ـ لوحات من الف ليلة وليلة معلقة فى صالة المتجر .
ـ هذا هو من نشاط مدام " كارين " إنها نشطة جدا فى الإعلان .. ولولا الإعلان ما جئت أنت إلى هنا ..!
ـ وسترين صورتى وبعضا من لوحاتى .. ونحن فى الطريق إلى الصالة .

ورأت السرور على وجهى فابتسمت ونزلنا بالمصعد إلى الطريق وودعتها فى القطار الذاهبة به إلى بيتها .

***

وفى الصباح التالى اتصلت بى تليفونيا فى الفندق .. وقالت برقة :

ـ سنتقابل اليوم فى السادسة والنصف مساء بعد انتهاء عملى .. وسنتعشى معا .. وأنا صاحبة الدعوة !

ـ وأقبل بسرور ..!

ـ سيكون اللقاء فى المقهى الصغير الذى شربنا فيه القهوة بالأمس .

ـ سأكون هناك قبل الموعد بساعة !

وتعشينا أنا و"جوانا " فى مطعم اختارته هى .. وشربنا مع الطعام الكثير من البيرة .. وخرجنا نتجول فى المدينة .. وأصبحنا نخرج من ميدان إلى ميدان .. ومن شارع إلى شارع .. وأنا أقول لها :

ـ ألا تشعرين بالتعب .. ألا نركب سيارة ؟
ـ أبدا أنا أحب أن أريك أجمل ما فى المدينة فى الليل .
وكنا نتجه إلى الميناء .. ووجدنا ملهى طالعنا منه السكون .

فهبطنا إليه .. واتخذنا زاوية ركنية .. وطلبنا النبيذ وجلسنا نشرب .. ونستمتع بالموسيقى والرقص .. ثم أقبل فوج من البحارة وكنا فى ظهر الميناء .. فدخلوا الملهى وأخذوا يشربون ويعربدون .. وكانوا من أجناس مختلفة من الإنجليز ومن بحارة الشمال .. وكنت أود أن نخرج من المكان بمجرد دخولهم ولكنى خشيت أن تتصور أنى خفت منهم .. فبقينا كما كنا ..

وكان همهم كله الرقص والغناء بصوت كريه .

وأقبل بحار تجاه مائدتنا وقال بأدب :

ـ هل تسمح لى السيدة برقصة ..

ورددت أنا على الفور قبل أن أعطيها الفرصة للرد بالقبول أو الرفض ..

ـ السيدة لاتعرف الرقص ..
ـ أتوجد سيدة أوربية لاتعرف الرقص ؟
باستغراب شديد ..

ـ أجل توجد وأرجو أن تنصرف .

وهم بأن يمسك السيدة من ذراعها .. فلكمته بجمع يدى فذهب يترنح وسقط على مائدة مجاورة وشعرت بلكمة على صدغى ولم أر من فعلها .

وتكهرب الموقف وجاء اثنان من عمال الملهى فوقفا بيننا وبين من تحرك من البحارة ، وكان صاحب الملهى قد طلب البوليس فدخل سريعا .

وقالت بسرعة :
ـ لنخرج .
فقلت لها :
ـ سنخرج ولكن ليس فى حركة الهارب أو الجبان .
ـ أعجب لموقفك وأنت الغريب ..!

وبعد دقائق أمسكت بيدها وخرجنا .. فإذا بالمطر يتساقط بغـزارة والريح تعصـف ولم نكن مستعدين بملابسنا للمطر فقلت لها :

ـ إن الفندق على بعد خطوات من هنا .. وهو أحسن مكان يأوينا .. حتى ينقشع المطر .

فلم ترد واتجهنا إلى الفندق مسرعين .

ولم ينفعنا الجلوس فى البهو لأن معاطفنا كانت مبللة .. فصعدنا إلى غرفتى وخلعنا معطفينا ووضعناهما على المناشف الكهربائية المعدة للفوط ليجفا من الماء ..

وكان صدارها الصوفى الذى تحت المعطف قد أصابه البلل أيضا .. ولكنى خجلت أن أقول لها اخلعيه ليجف وإلا سيصيبك البرد والزكام وأكون أنا السبب . وتحسسته بيدها ثم أبقتــه كما كان . ولعلها راودت نفسها على خلعه ثم عدلت .

وقالت وعلى وجهها الأسى :

ـ كيف حدث كل هذا ؟ إنى أتعجب ..؟
ـ إن بلدكم هادىء وجميل .. وأهله بسطاء ومن أطيب الناس وأحسنهم خلقا .. ولكن المتاعب تأتيكم دوما من الغرباء عنكم ..

ـ هذا حق .. والخنزير الذى لكمك لم أره .. وإلا لكنت .. وإلا لكنت ..

ونظرت اليها وهى منفعلة .. وأحببتها فى هذه اللحظة كما لم يحب رجل امرأة فى حياته .. وشعرت بالخجل لكل ما حدث ..

وقلت وأنا أنظر إلى عينيها :
ـ سنشرب .. عندى كونياك .. هنا ..
ـ لقد شربنا كثيرا .. يا مختار ..
ـ ولنشـرب أكـثر .. لنتقى البرد وأنت خارجة .. وانسى ما حـدث .. لقد كنت السبب فى احراجك الليلة ..
ـ كيف تفكر هكذا يا مختار .. وأنت الغريب عن البلد .. ولا تعرف فى أى ملهى كنا وأخذنا نشرب ..

وقالت وقد تضرج وجهها :
ـ هل كانت شهر زاد جميلة إلى هذا الحد الذى رسمته فى اللوحة ؟
ـ أعتقد هذا بعد كل ما قرأته عنها .. وأنها كانت أجمل من كل رسم ..
ـ وذكية ..؟
ـ جدا .. ذكاء مفرط .. انظرى كيف كانت تختار الجمل .. وكيف كانت تتوقف عند جملة بعينها .. بعد أن يبلغ شهريار مداه من التشوق واللهفة إلى سماع باقى القصة .. فى هذه اللحظة كانت تتوقف عن السرد .. وتتركه يتمرغ فى شوقه إلى الليالى التالية ..
ـ لقد رسمتها وأنت تحبها إذن ..؟
ـ أجل وستحبينها أنت أكثر منى .. إذا قرأت القصة ..

وحدث شىء جعلنا نقطع الحديث .. فقد أخذ الدم يتساقط من أنفى .. حدث هذا فجأة .. وحدث فى دفء الغرفة والشراب .. وكان الدم قد حبسه البرد الشديد فى الخارج ولكنه انطلق الآن ..

ودخلت الحمام أغسل الدم .. ودخلت ورائى ..

وقالت بلوعة :
ـ أفكر فى الطبيب بسرعة .. والطبيب هنا لايوجد إلا فى المستشفى ..
ـ لاداعى لطبيب أو مستشـفى .. الدم سينقطـع حالا بالماء البارد .

وأمسكت بالفوطة وبللتها بالماء وأخذت أمسح الدم .. وتناولت الفوطة من يدى .. وحركت كفها بنعومة ..

فقلت لها وأنا شاعر بالراحة .. !
ـ هــذه أول أنامل لأنثى تمسح آلامى وأشعر بها فى حياتى ..
ـ كيف هذا .. وزوجتك ..؟
ـ تزوجت مرة واحدة .. وفشلت .. وعدلت عن الزواج كلية بعد هذه التجربة .. فليس عندى من الأعصاب ما يحتمل ترويض الأنثى .. أنا قلق ولا أثبت على حال ..

ـ أنت فنــان ولوحاتك تعبر عن الصبر الطويل وليس القلق ..
ـ ولكنى كنت قلقا وعصبيا معها فاعذرينى ..
ـ وجهك بملامحه يبدو عليه الهدوء وسكينة النفس .. ولكن من عينيك يطل الحزن .. وأدركت هذا من الصورة التى بعثتها إلينا مع لوحتك .. فما سبب هذا الحزن ..؟

ـ أشعر فى أعماقى بالتعاسة .. والقلق ..
ـ هذا ما يشعر به كل فنان .. فلا تروع نفسك ..
ـ ولكنى مروع .. وأخاف دائما من شىء مجهول لا أعرف متى يأتى ..!!
ـ لاتجعلنى أضحك .. أنت فى رونق شبابك .. وهذه حالة مرضية فأبعدها عن رأسك ..
ـ ولكنها موجودة .. فما حيلتى ..!
ـ أنظر انقطع الدم تماما ..
ـ سأقبل اليد التى مسحت عليه .. وكانت السبب ..

وقبلت يدها وعينيها .. وضممتها إلى صدرى ورحنا فى عناق طويل .. غبنا فيه عن الغرفة .. والفندق والزمان والمكان بل عن الوجود كله .

***

وارتدت ملابسها التى جفت وأكملت زينتها وتهيأت للرواح .. وكانت تود أن تذهب وحدها إلى قطار الضواحى الذى سيحملها إلى بيتها .. ولكنى أصررت على مرافقتها ..

وخرجنا والليل متجل وفى قمة جماله وصحوه .. كما تتجلى العروس .. والمدينة ساكنة وأنوارها تتلألأ .. ودخلنا المحطة وكانت خالية إلا بالقليل من الركاب .. فقد قارب الليل إن ينتصف .. ورأينا رجلا يترنح تحت الرصيف والجو أخذ يثلج .. ونظرت إليه وقالت بمكر ..

ـ هل كانت شهر زاد سكرى الليلة فى الفندق ..؟
ـ أبدا .. ولا كان شهريار سكرانا ..!
ـ وما حدث ..؟!
ـ لابد من حدوثه ..

وارتسم على وجهها حنان لم أر مثله على وجه أنثى ..

وسمعنا صوت القطار داخل المحطة .. فقالت :
ـ أقبل القطار .. وسأريك قطع التذكرة ..

وأخذت ترينى الطريقة فى الآلة الأتوماتيكية المخصصة للتذاكر ..
وقلت لها :
ـ إننى من الغباء بحيث يصعب علىّ التعلم من أول مرة ..
ـ سأكرر الطريقة ..
ـ وتخسرين نقودا ..
ـ لا يهم ..
ـ أو أحسن أن أركب من غير تذكرة .. ويغرمنى الكمسارى .. بدلا من كل هذا التعب ..
ـ لن يغرمك الكمسارى ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنه يعرف أنك فنان .. ومهذب .. ووجهك ضاحك ..!!
وقبلت يدها .. ودخلت القطار .

***

وفى الصباح عرفت الطريق إلى المحطة وركبت نفس القطار .

واستقبلتنى جوانا على المحطة التى فيها بيتها .. وكان اليوم من أيام الأحد وهو عطلة .. فتحركت بحريتها وأرتنى الريف .. ببهجته وجماله وأزهاره وحدائقه ومزارعه الصغيرة .. وفيلاته الخضراء .. من طابقين بسقوفها المحدودبة والثلج يغطيها والبرد يلفها والعصافير تزقزق فى أركانها .. والطرق كلها بيضاء كنتف القطن ..

وبعد جولة طويلة بين الفيلات والثلج يتساقط والشمس غائبة .. شربنا الشاى وأكلنا الفطير فى شرفتها المطلة على المزارع ..

وقالت :
ـ سنقوم بجولة أخرى بعد أن يخف سقوط المطر .. وسأريك كلية الفنون .. وسترى هناك لوحات الشباب من كل أجناس الأرض .. وستمر بها وتعجب بهذه المواهب المتفتحة للحياة ..
ـ يسعدنى هذا ..
ـ وسنتغدى هنا ..
ـ ونتغدى هنا ..!

فابتسمـت واكتسى وجهها بلـون الأرجوان .. لموافقتى السريعة .

وقالت وهى تنهض وعلى وجهها البشر ..

ـ إنك حتى هذه اللحظة .. لم تر زوجى .. فتعال لأقدمك إليه ..

وتحركت وراءها إلى الدور الأول من الفيلا ..

وفى قاعة جميلة زينت بالكتب واللوحات والتماثيل الصغيرة .. قادتنى إلى ركن خفيف الضوء ..

وقالت برقة :
ـ سلم على زوجى ..

وكان الرجل يجلس بكامل هندامه على كرسى متحرك ..
وشعرت بيدى وأنا أحاول مدها إليه كأنها تحمل أطنانا من الحديد المحمى .. وعجزت عن تحريكها ..

وهبت العاصفة بكل ثقلها فجأة ..

وانحنيت وقبلت رأسه ..

وأدركت هى ما حل بى .. فأدارت رأسها وغالبت عبراتها .. وخرجت مسرعة من الغرفة .. وجلست بجوار الرجل وأنا مشلول الذراع صامت أخرس والدنيا تدور بكل ثقلها وأوزارها وتحط على صدرى .
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو المصرية بتاريخ 431985 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص قصيرة " لمحمود البدوى عام 2000
=================================


اللوحة ـ قصة قصيرة

اللوحــة

قصة محمود البدوى


كان حسام الدين رساما مشهورا ولوحاته الفنية حديث الناس فى المجتمع ..
وكان يسكن فى " فيلا " صغيرة من طابق واحد فى عزبة النخل بعيدا عن المحطة .. وكان يحيط بالفيلا حديقة برية نمت كما اتفق كأنها تسقى بماء الأمطار .. وتركت أشجارها وكل ما فيها من نبات وزهر للمقادير .. فمنذ وفاة زوجته .. وهو يعيش وحيدا ولا يدخل بيته خادم ولا بستانى ..
كان يأكل فى مطاعم القاهرة ويرسم لوحاته فى الأندية .. ويذهب إلى الفيلا فى آخر قطار لينام ..
ومرت حياته على هذا المنوال البوهيمى .. شهورا عدة .. وحدث فى صباح يوم من أيام الشتاء .. وكان نازلا من القطار فى محطة كوبرى الليمون كعادته .. فبصر بفتاة تجلس وحدها على مقعد فى المحطة ..
وكان وجهها معبرا ويبدو عليه الارهاق الشديد ..
ثم انطلق لشأنه ..
ولما رجع فى الليل ليركب آخر قطار ذاهب إلى المرج .. رآها جالسة على المقعد نفسه .. وكان قد أمضها الانتظار وحطم أعصابها .. فأخذت تتلفت فى قلق وتفحص كل الخارجين والداخلين من باب المحطة .. ثم ألقت برأسها على كتفها مستسلمة وفى تلك اللحظة تقدم إليها حسام الدين .. فركبت معه القطار إلى البيت ..
وكان فى وسط الحديقة بئر عليه دلو صغير .. فكانت مديحة .. تقضى الفراغ فى تحريك الدلو وسقى الأشجار .. وتجد فى ذلك لذة محببة .. وكان حسام يشاركها أحيانا فى سقى الحديقة ..
كانت تعرف طباعة وتعرف أنه لا يحب الأيدى الغريبة التى تعبث فى لوحاته .. وألوانه .. فكانت تحافظ على أدوات عمله ولا تدع أحدا يدخل البيت فى غيابه ..
وكانت تتركه عصر كل خميس .. وتعود إلى عزبة النخل فى صباح السبت فى أول قطار .. يفتح عينيه على وجهها الجميل ..
وكانت تعود من غيبتها حزينة .. وقد ذهبت نضرة وجهها ..
فسألها مرة :
ـ إذا كان السفر يرهقك فلماذا تسافرين ..؟
ـ أنه لا يرهقنى .. وهو أمر لابد منه ..
ـ كما تحبين ..
وكانت وادعة وتحسن أمور البيت وتعرف طباعه وتحرص على راحته .. حتى حببت له الإقامة فى هذا المكان المقفر .. وأصبح يخرج الحامل إلى الحديقة .. ويجلس يرسم ساعة وساعات مستغرقا فى عمله .. فإذا ألقى الفرشاة جانبا .. كانت الشمس قد أذنت بالمغيب .. ويكون التعب قد نال منه .. وفى هذه اللحظة تظهر مديحة فى ممر الحديقة حاملة صينية القهوة .. فيتناول منها الفنجان ويأخذا فى فنون الأحاديث ..
وكان قد رسمها .. عارية .. ولابسة .. فى لوحات كبيرة .. ولكنه لم يعرض هذه اللوحات .. وجعل الوجه شبه مطموس .. ومذ دخلت بيته وهو يشعر بالنشاط فى جسمه وفى عقله .. وذهبت عنه الغمة التى نزلت به بعد موت زوجته .. وأصبح يجد فى مديحة العوض .. والأنثى التى يتمناها الفنان ..
ولكنه لم يشاهد مثل هذا الوجه المعبر .. وفكر فى حياتها معه .. وحرصها على راحته وسعادته .. وفى انسانيتها ورقتها .. واهتزت مشاعره .. وقرر أن يحدد علاقته بها .. وأن يتزوجها ..
ورأى أن يفاجئها ذات مساء بالمأذون داخلا معه البيت ..
وفى الأسبوع الذى قرر فيه الزواج بها .. اشتعلت نيران الحرب فى القنال وابتدأت الغارات .. واشترك معظم الرجال فى المعركة .. وكفنان فكر فى أن يشترك فى المعركة بريشته .. ويرسم لوحة كبيرة يعرضها فى ميدان المحطة .. أو فى طريق الجنود الذاهبين إلى الميدان ..
وفى وقت الغارات والظلام والقنابل .. كان يعمل بذهنه .. ولا يدع دقيقة واحدة تمر دون عمل ..
ولكن بعد مضى أربعة أيام كاملة .. من العمل المتصل .. لم تعجبه اللوحة ووضع الريشة جانبا .. واعتمد برأسه على راحته ..
وسألته مديحة وهى تقدم له القهوة :
ـ ما لك ..؟
ـ اللوحة .. كما ترين .. مطموسة .. ولا تعبر عن شىء ..
ـ حاول غيرها ..
ـ سأحاول .. ولكن ما النتيجة ..؟ ستكون مثلها ..
ـ ولماذا تقدر أن تكون مثلها ..؟
ـ لأنى أرسم نفسى .. أرسم طبيعتى المصرية السمحة .. طبيعة شعب مسالم .. يحب السلام .. ولا أعرف روح الشر .. التى تحرك هؤلاء الأوغاد ..
ـ وما العمل إذن ..؟
ـ يجب أن أذهب إلى ميدان القتال .. وأرى وجوه الوحوش الآدمية .. التى تدمر البيوت وترسل الصواعق من السماء ..
وفى اليوم التالى حاول أن يذهب إلى بور سعيد فلم يستطع ..
فعاد إلى بيته وفى رأسه فكرة جديدة .. ووجد فى البيت غلاما فى الثامنة من عمره يجلس بجانب مديحة وعرف منها أنه ابن خالتها وأنه جاء يقضى معها بضعة أيام خلال عطلة المدارس .. التى أغلقت بسبب الحرب ..
وسر حسام لوجود الغلام سرور مديحة به .. وكان يسمع صوته فى البيت .. وحركته الدافقة ..
وكانت مديحة فى أثناء الغارات الشديدة تجذب الغلام إلى صدرها وتمنعه من الحركة وكانت إذا ذهبت إلى السوق فى الصباح تأخذه معها ..
وكان أحيانا يذهب إلى السوق وحده ليشترى بعض الأشياء الصغيرة كالصابون والسجائر .. والحلوى ..
وبعد يومين اثنين أحسا بقيمة الغلام .. وضرورة وجوده معهما فقد كان يشيع فى البيت الحركة ..
***
وذات مساء .. وكان حسام الدين مشغولا برسم لوحة كبيرة .. سمع صفارة الإنذار .. فوضع الفرشاة جانبا .. وأطفأ المصباح وتمطى .. وقال فى مرارة .. وهو شاعر بالإخفاق :
ـ لا فائدة ترجى .. برغم هذا التعب .. والصورة لا تعبر عن شىء على الاطلاق ..
وسمعت مديحة فجزعت وسألته :
ـ لا تعبر عن شىء ..؟
ـ إطلاقا ..
وخيم الصمت .. وكانت قد وضعت الغلام فى الفراش ودثرته .. فلما اشتد ضرب القنابل عادت وحملته وهو نائم .. وجلست فى الصالة بجانب حسام .. وشعر بكآبة ..
وقال حسام وكأنه يسمع هاتفا :
ـ أشعر بأننى سأموت .. كيف نواجه الشر ..؟
ـ بقلب صلد ..
ـ هذا صحيح .. ولكن هناك أناس فى العالم يصنعون الحروب .. ويعيشون ليدمروا حضارة البشر .. فكيف نواجههم .. وكيف نسحقهم ..؟ هذا هو السؤال .. منذ آلاف السنين وهم يصنعون الحروب ويقتلون النساء والأطفال .. فكيف نواجههم بقوى الخير التى فى الإنسان ..؟ إذا واجهناهم بوداعتنا وحمامة السلام التى على وجوهنا سحقونا .. وإذا أرسلنا عليهم القنابل المدمرة وصفونا بالتوحش .. هذا شىء يحير ..
وابتسمت وهى تستمع إلى حماسته .. ثم سمعته يقول وهو يخصها بالحديث :
ـ أشعر بأنى سأموت اليوم أو غدا .. وليس لى سواك .. فأرجو أن تدفنينى فى الإمام ولا تدفنينى فى المجاورين .. بجوار عبد الخالق ..
وضحكت .. حتى اهتز جسمها ..
كان يحدثها دائما عن قريبه عبد الخالق هذا .. بمثل هذه المرارة ..
وعصر يوم من أيام السبت وكان النهار قد انقضى من غير غارات شعر حسام بحاجته إلى السجائر .. فأرسلت مديحة " سرى " إلى بائع قريب فخرج الغلام يعدو .. وبعد خروجه مباشرة دوت صفارة الإنذار فنادته مديحة لترجعه .. ولكنه كان قد ابتعد فى الشارع فلم يسمعها وبعد قليل سمعت مديحة ضرب وصوت القنابل ولما خرجت إلى الشارع كانت الطائرات المغيرة تحلق على ارتفاع منخفض وتضرب الناس بالمدافع الرشاشة ..
فجرت مذعورة .. وهى تصيح :
ـ ابنى .. ابنى ..
وبعد عشر دقائق رآها الناس تحمل كتلة من اللحم على صدرها وكانت تمشى ثابتة الخطى وقد جف دمعها .. ورآها حسام تمشى فى الطريق الطويل مع الشمس الغاربة .. والغلام على صدرها .. وجموع الناس حولها ..
***
وفى الصباح أخذت مديحة تجمع ملابسها ..
وسألها حسام والدمع فى عينيه :
ـ إلى أين ..؟
ـ لقد ذهب الشىء الذى كنت لأجله أعيش معك .. وأتنفس لأرعاه وأتحمل المشاق لأطعمه فكيف أبقى ..؟
ـ لم تحدثينى قط عنه ..
ـ وهل كنت تبقينى فى بيتك لو عرفت أن لى ولدا ..؟
ـ طبعا ..
ـ أبدا .. ولا ساعة واحدة .. وأنا أعرف الرجال .. وأعرف أنانيتهم ..
ـ قد لا تعرفين .. أننى عزمت من شهور طويلة على أن نتزوج وبعد أيام سأنفذ الفكرة ..
ـ أننى الآن لا أصلح لأى شىء .. لقد ذهبت روحى .. وهل تقبل أن أعيش معك من غير روح ..؟
ـ أقبل ..
ـ إن قبلت أنت .. فلا أقبل أنا .. مستحيل .. أننى ذاهبة ..
ـ وهل .. هو .. الذى كنت تذهبين إليه كل خميس ..؟
ـ طبعا .. ولم أكن أسافر .. لأى بلد كما قلت لك .. كان فى القاهرة .. تركته عند سيدة ترعاه .. وكنت أعطيها كل شىء .. ولما دخل المدرسة واشتد ساعده .. وأصبح فرحتى الكبرى .. ذهب .. ككل شىء فى الحياة ..
وأخذتها العبرات ..
وسألها :
ـ إلى أين أنت ذاهبة .. هل لك أقرباء فى القاهرة ..؟
ـ أبدا .. ولكنى سأمشى .. فى المدينة وأقف على رءوس الشوارع والميادين وأقول للناس .. قاتلوا الوحوش .. قاتلوا الأندال .. قبل أن يقتلوكم ..
ـ وبعد هذا ..؟
ـ وبعد هذا .. يحدث الله أمرا ..
وأخذت طريقها إلى الباب الخارجى .. وحاول منعها فلم يستطع ..
***
وجلس بعد أن ذهبت .. صامتا .. حزينا .. ثم تحرك وجلس إلى اللوحة وأخذ يرسم وهو منفعل .. المشهد المسيطر على ذهنه والآخذ بحواسه .. المشهد الذى رآه .. صورة الأم وهى تحمل غلامها الشهيد .. ووراءها الجموع الزاخرة تحمل البنادق والخناجر لترد على العدوان بما هو أشد منه .. وعندما فرغ من الرسم وتأمله .. رضى عن نفسه وأدرك السبب الجوهرى الذى جعل اللوحة .. معبرة .. وحية ..


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى صحيفة الشعب بالعدد 198 بتاريخ 20/12/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1960
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الفرقة الأجنبية ـ قصة قصيرة

الفرقة الأجنبية

قصة محمود البدوى


قبل سنوات كان الفلاحون فى الريف يحسون بالفراغ .. ولم تكن فى معظم عواصم المديريات دار واحدة للسينما .. ولاشىء للتسلية واللهو .. وكانت كل هذه الأشياء مركزة ومجمعة فى القاهرة .. فإذا حدث ورحلت فرقة تمثيلية صغيرة .. من قلب العاصمة وحطت رحالها فى مدينة .. المنيا .. أو سوهاج .. استقبلها الناس بحرارة لاحد لها .. حتى وإن كانت من أحط الفرق الجوالة على الاطلاق ..
وكان الخواجه " اسناسيو " يملك فندقا كبيرا فى مدينة أسيوط مجاورا للمحطة .. وفى هذه المنطقة تتجمع كل الفنادق والمقاهى التى فى المدينة .. ويشتد بينها الصراع ..
وكان الخواجه " اسناسيو " يعمل بعقل ذكى على راحة النزلاء ويجدد فى الفندق ويبتكر وسائل للتسلية ، فكان فندقه من أشهر وأحسن الفنادق فى المدينة ..
ويستيقظ نزلاء الفندق ذات صباح على صوت أنثى .. تتكلم باللهجة " المصرية " الناعمة وتضحك وفى يدها السيجارة .. ويرون القميص الذى يضم صدرها ينشق عن مثل المرمر .. والساق منثنية إلى جانب وعارية .. فيعرفون فى الحال أن فرقة أجنبية جاءت من القاهرة فى قطار الليل ..
وتكون الفرقة فى الغالب مغمورة وقضت فى العاصمة .. ستة أشهر على الأقل فى تعطل مر .. وليس من بين أفرادها اسم واحد رددته الصحف .. ومع هذا كله .. فبعد ساعة من وصولها يتدفق الناس على الفندق كالسيل ..
***
وفى الليل يبدأ عمـل الفرقة .. ويظل الرقص والموسيقى إلى الصباح .. وتأتى وفود العمد والأعيان من ملوى وديروط وكل المراكز البعيدة والقريبة .. ويصبح من المألوف جدا أن تقف عربة كبيرة على باب الفندق .. وترى على رفوفها غبار السفر .. وينزل منها أحد كبار الأعيان .. ويكون ضخما فى الغالب ويرتدى الكاكولة السمراء والقطنية البيضاء ذات الخطوط السوداء الرفيعة .. ويندفع توا إلى الداخل .. وهو يحيى الموجودين .. ثم ينزل بعده ستة من التوابع ، أربعة منهم مسلحون على الأقل .. ويجلس اثنان بالبنادق على الباب .. ويدخل الباقون ..
وتركز عيون الرجال جميعا .. على شىء واحد .. فى الفرقة .. شىء عجيب فى نظرهم .. راقصة .. تركية .. أو شركسية .. أو مصرية أو " منصورية " .. راقصة واحدة تنسيهم رائحة الدريس .. وعليـها يدور الصراع .. وتدور الكئوس .. وتفرغ زجاجات الشمبانيا .. وتحرق أوراق البنكنوت من كل الأحجام .. لإشعال سيجارة لها .. وتكون هى فى الغالب لاتدخن على الاطلاق ..
كانوا يبيعون القطن وينثرون ذهبه تحت أقدام الغوانى والراقصات ومن ورائهم يزحف بنك الأراضى والبنك العقارى ناشبا مخالبه ..
***
وفى خلال السنوات الأربع التى قضيتها فى فندق " ديانا " لم أشعر بأى ملل على الاطلاق ..
وكنت أول من ينهض من الفراش فى الصباح .. وأنزل إلى حديقة الفندق الصغيرة لأنظر وأشرب القهوة وأطالع الصحف التى وردت فى قطار الليل .. قبل أن أذهب إلى عملى فى تفتيش الرى ..
وذات صباح رأيت شابا نحيفا فى الثالثة والعشرين من عمره قد سبقنى إلى الحديقة .. وجلس يشرب الشاى ، وكانت تبدو عليه الوداعة ، ثم أقبلت فتاة من داخل الفندق وجلست بجانبه .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. ولاحظت أنها شديدة الخجل فبمجرد أن لمحتنى جالسا عن قرب تضرجت وجنتاها .. وكانت بيضاء طويلة وجسمها تبرز تقاطيعه فى تناسق مع الفستان الذى تلبسه .. ولمح الشاب " جارسون " اللوكاندة واقفا هناك على باب الحديقة ، فصاح فيه :
ـ من فضلك .. صحى الجماعة اللى فوق .. جعنا ..
ـ حاضر ..
وبعد نصف ساعة كانت الفرقة كلها تتناول الافطار بجوارى .. وكانوا يتحدثون عن رحلتهم .. فى بنى سويف والمنيا .. ويكثرون من الضحك ويتندرون على الفلاحين البسطاء ..
ولاحظت من وجوههم وهندامهم ، أنهم من فرق الدرجة الثالثة ولكنهم كانوا يضمون إلى مجموعتهم فتاتين من أجمل من رأيت من النساء .. وكان لإحداهن جسم شفاف كالبللور .. ينثنى ويلف كالخيرزان ..
***
وفى الساعة الحادية عشرة صباحا ، رأى الناس الموسيقى فى المدينة لأول مرة تعلن قدوم الفرقة .. وكان على رأسها " بلياتشو يلبس طرطورا " .. ويرقص ـ وهو سائر ـ حاجبيه .. ويكتفى بهذه الحركة عن عمل أى شىء آخر ..
وفى الليل بدأ الغناء ودار الرقص .. ومثلت رواية مضحكة اشترك فيها الجمهور .. وسمعت وأنا جالس فى بهو الفندق الغناء .. ورنين الصاجات .. ونقر الدف .. ولكننى لم أشاهد التمثيلية ، وحوالى الساعة الثانية صباحا انفض السامر .. والتف الأثرياء حول موائد الشراب .. ورأيت جماعة منهم هناك فى زاوية من القاعة .. ومعهم الفتاة التى كانت ترقص فى السامر .. وهى الفتاة التى شاهدتها فى الصباح مع الشاب فى الحديقة .. جلست فى أول الأمر منكمشة خجلى لاتفهم بعض كلماتهم الصعيدية ثم شربت معهم وأكلت وأخذت تضحك ، وجلسوا حولها حلقة يشعلون لها السجائر بأوراق البنكنوت .. وابتدءوا بالجنيه .. والعشرة .. وهم يضحكون .. ولكن اسماعيل " بك " كتم أنفاس الحاضرين فجأة فقد أخرج بهدوء من جيبه ورقة بمائة جنيه .. وأشعل بها السيجارة للفتاة ..
ورأيت دخان الورقة الأزرق .. يصعد إلى خياشيم الفتاة .. ثم رأيت الرماد يسقط على الأرض ..
وفى غمرة الانتصار ونشوته .. وقفت الفتاة منتصبة .. ورأيت عواطفها كلها تذوب .. كأنها تود أن تحتضن الرجل وتقبل وجناته ..
ثم غالبت نفسها وعادت إلى كرسيها وفمها يتموج راقصا بالضحك ..
***
ولما صعدت لأنام سمعت صوت اسماعيل " بك " ورائى .. فقد كان يقيم فى الطابق نفسه .. وفى غرفة مجاورة لغرفتى ..
ولما أدرت الأكرة وحركت الباب .. رأيت على الضوء الخافت ، ضوء سيجارة هناك فى الممر .. فتوقفت ومددت بصرى ، فرأيت الشاب الذى كان فى الصباح يشرب الشاى فى الحديقة .. جالسا هناك فى العتمة .. فى نهاية الممشى كأنه فى انتظار رفيقته ..
وفى عصر اليوم التالى شاهدت من نافذة غرفتى .. الموسيقى عائدة من جولتها فى المدينة .. وكف العزف .. ودخل البلياتشو من باب الفندق وهو ينزع القناع .. ورأيت وجه الشاب رفيق الفتاة الراقصة ..
وقبل الغروب نزل إلى الحديقة .. وكان قد اغتسل ولبس البدلة التى شاهدته فيها فى اليوم الأول .. وحيانى وجلس جانبا يطالع بعض الصحف ..
وسمعت الفتاة الراقصة تناديه من فوق .. وكان مستغرقا فى المطالعة فنبهته .. فرفع وجهه إليها ..
ـ رءوف .. اطلع ..
فهز رأسه .. وعادت تلح وتناديه ..
فطوى صحيفته .. وصعد إليها ..
وعاد بعد فترة وجيزة منفعلا وعلى وجهه الغضب وجلس ساهما على المقعد نفسه .. ونزلت الفتاة بعد قليل .. وكانت متأنقة .. ومتعطرة .. وترتدى رداء محتشما سابغا .. كأنها عذراء من الريف .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. وكأنها تناجيه .. حتى رأيت وجهه يعود إلى هدوئه .. وانفتأ الغضب ..
ثم نهضا .. واتخذا طريق النيل ..
***
وبعد آذان العشاء .. خرجت لأجول فى المدينة .. ولما رجعت إلى الفندق فى الساعة العاشرة مساء .. كان الرقص دائرا فى القاعة الداخلية .. وكان رءوف جالسا وحده .. تحت مدار السلم وقد مال رأسه على صدره .. وتنبه على وقع أقدامى .. فرفع رأسه .. وحدق في مليا ثم سدر ..
وجلست قريبا منه أتعشى وأنا أسمع صوت الأنغام .. ولما دعوته للطعام اعتذر وقال لى :
ـ اعتدت أن أتعشى مع مديحة بعد أن تنتهى من رقصتها وستأتى حالا ..
ولكنها لم تأت ..
وانقضت ساعتان هكذا وهى تضحك مع الرجال فى الداخل .. وهو يسمع ضحكها من مجلسه ويتلون وجهه بكل الألوان .. وقد عجبت من تصرفه وشذوذه ، يصاحب راقصة ثم يغار عليها .. وسمع ضحكة حادة منها فابيض وجهه .. وكان أمامه كوب من الماء .. فرفعه إلى فمه .. ويده ترتعش .. ولا تقوى على حمل الكوب .. ولاحظت .. أن حاجبيه يرقص رقصة واحدة شديدة فى كل خمس .. أو ست ثوان ..
وظل يدخن وينفض الرماد ثم نهض وصعد إلى فراشه ..
وسمعت صياحا .. عاليا .. يأتى من الداخل .. وأزحت الستارة ووقفت أشاهد مديحة وهى ترقص بالصاجات وينثنى جسمها كالثعبان وكانت وسط نفر قليل من الرجال لايزيد على خمسه .. ولم يكن من بينهم اسماعيل بك ..
وكان الدخان يملأ جو المكان .. ومديحة ترقص على نقر خفيف .. للدف .. ولايوجد عود ولاناى .. ودار جسمها دورات ثم أسبلت عينيها وهى تتأوه .. حتى اقتربت من " كنبة " .. فجلست تستريح وحبات العرق تتساقط كاللؤلؤ من جسمها العارى ..
ثم انتصبت وأمسكت بثوبها وهى تقول :
ـ كفاية .. بأه .. أحسن مسافرين بكره .. بدرى ..
وصعدت السلالم وحدها ..
ولما ذهبت لأنام بعد ذلك بنصف ساعة .. وجدت نور الغرفة التى اعتـادت أن تنام فيها مع الشاب مطفأ ولم أسمع صوتا هناك ..! وغفوت .. ثم تنبهت على صوت اسماعيل بك فى الغرفة المجاورة .. ولما رفعت رأسى عن الفراش وجدت فى غرفته ضوءا خفيفا .. وكان الصوت الذى سمعته قد انقطع ولكنه عاد أشبه بالهمس .. فتحركت من فراشى .. وفتحت الباب .. فوجدت بابه مواربا واستطعت أن أرى مديحة وهى ترقص عارية فى زاوية من الغرفة دون صوت وكأنها نائمة واسماعيل بك يتربع أمامها وفى يده الكأس وعيناه نصف مغمضتين والدخان يملأ جو الغرفة ..
وخشيت أن ترانى .. فعدت إلى غرفتى .. وتمددت على السرير ..
***
وفجأة دوت طلقات مزقت السـكون .. وجريت على صوت النار ، فوجدت مديحة ساقطة فى مكانها .. واسماعيل بك .. قد تدحرج بجوارها على الأرض ..
وكان رءوف على الباب .. وفى يده المسدس ..
ولما تناولته منه .. سلمه دون مقاومة ..
ـ لن يقتلونى هنا ويمزقونى .. بالسكاكين ..
ـ لا .. لن يمسك بك أحد حتى يأتى البوليس ..
وأغلقت الباب من الداخل ..
وأمسك بى وأخذ يهذى :
ـ حضرتك محام .. اعمل معروف .. خلصنى .. أنا مريض .. أنها زوجتى .. ولقد تزوجتها وهى راقصة لتكون لى وحدى .. ولم تكن هكذا كانت أشبه بالعذراء .. وقد عملت بلياتشو فى الفرقة .. لأكون معها فى الليل والنهار .. أنا مريض .. مريض بالأعصاب .. ولا أستطيع أن أقوم بأى عمل .. عندما كنت فى بطن أمى .. أتهم والدى فى جريمة قتل وسجن وكان الناس جميعا يعرفون أنه برىء .. ولكنه بقى فى السجن ثلاث سنوات ، ولما صدر الحكم أخيرا بالبراءة .. كان قد ضاع ، وتمزقت أعصاب أمى ، وقد ورثت منها هذه الأعصاب ، أنا غير مسئول ، أنا مريض .. ولن تتركنى .. وحدى .. أنت شاهد .. وأنا مريض .. مسكين ..
وأطرقت برأسى وأنا مدرك أننى لاأستطيع أن أفعل شيئا لهذا الشاب ورحت فى دوامة من الخواطر ، وفى خلال تلك الدوامة خيل إلىَّ أننى أسمع رنين الصاجات .. وأرى جسم مديحة .. الشفاف كالبللور وهو ينثنى ويدور .. برقصة بكر .. وخيل إلىَّ أنها ترقص لى وحدى رقصة جديدة .. لم ترقصها من قبل لإنسان ..







=================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 1/2/1957 وأعيد نشرها بجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حارس البستان "
=================================