الجمعة، ١٧ أبريل ٢٠١٥



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان

الجمعة، ١٦ نوفمبر ٢٠٠٧

الدرس الأول ـ قصة قصيرة

الدرس الأول

قصة محمود البدوى

كنت قد تبطلت نصف عام كامل وضاقت بى سبل العيش فلم أوفق لعمل فى طول هذه المدينة وعرضها ..
كان هناك قدر عات يسد فى وجهى السبل وحظ عاثر يأخذ علىَّ كل طريق وأخيرا بدا لى أن أفعل شيئا ..
فقد درست الموسيقى فى أيام الحداثة دراسة لا بأس بها ، فلماذا لا أعطى دروسا لعشاق هذا الفن الجميل ..؟
وعلقت لافتة كبيرة على شقتى الصغيرة فى شارع حسن الأكبر وانتظرت الفرج ..
ومضى شهر كامل ولم يحضر أحد ..
وكنت أتضور جوعا وأعانى عذاب حرمان لايصور ، وكان الوقت شتاء ، فاجتمع علىَّ البرد والجوع والعذاب الأسود ، وكنت كلما نزلت إلى الشارع ولمحت اللافتة الكبيرة المعلقة على شرفتى أزداد غيظا وحنقا ..
وكان هناك سيرك شعبى بالقرب من ميدان باب الخلق وعلى مسافة قصيرة من المنزل ، وكان دائما صخابا عامرا بالناس ، وكنت أسمع منه كل مساء موسيقى رخيصة مبتذلة ، فيأخذنى الدوار ، ويشتد سخطى على الناس أجمعين ..
***
وفى مساء يوم سمعت الجرس يدق ، فأسرعت إلى الباب وقلبى يضطرب بين ضلوعى ، ورأيت على الباب فتى نحيلا فى مقتبل العمر ، يحرك يديه فى اضطراب وعلى وجهه دلائل الارتباك الشديد ..
وقال فى صوت خافت :
ـ أهذه شقة أستاذ الموسيقى ..؟
ـ أجل ..
ـ أريد أن آخذ دروسا ..
ـ تفضل ..
وأدخلته فى غرفة صغيرة مطلة على الطريق ، كان بها بعض الآلات الموسيقية ، زصور كثيرة على الجدران .. لـ سيد درويش .. وبيتهوفن .. وفاجنر .. وموزارت .. وشوبير ..
وجلست إلى مكتبى ، وجلس الشاب أمامى منكمشا على نفسه ، ولاحظت بعد قليل أن يده اليمنى ترتعش قليلا ، كما أنه يهز ساقيه ولا يستطيع الثبات على كرسيه إلا بجهد عظيم ، وأدركت من النظرة الأولى إلى عينيه ويديه أنه يعانى اضطرابا عصبيا شديدا ، فتلطفت معه فى الحديث حتى زال ارتباكه وهدأت أعصابه نوعا ..
ثم سألته :
ـ أى آلة تحب أن تتعلم ..؟
ـ الكمان ..
ـ هذا حسن .. ومن الذى أرسلك إلىَّ ..؟
ـ الدكتور هلال ..
ـ الدكتور هلال حدثك عنى ..
ـ لا أقصد هذا .. وإنما أقصد أن الدكتور أشار علىَّ بدراسة الموسيقى لأننى مريض بالأعصاب ..
ـ إنك لست مريضا .. بل أنت فى أتم صحة ..!
ونظر إلىَّ بعينين فيهما لواعج الأسى ، وصمت . وفى تلك اللحظة كنت قد تناولت العود وعزفت له قطعة تركية شجية ، ووجدته فى خلال ذلك قد أرسل بصره من النافذة المفتوحة إلى السماء الصافية الأديم ، واستغرق فى عالم الأحلام ..
واتفقت معه على أن يحضر ثلاثة أيام فى الأسبوع ، وحيانى وانصرف ..
***
وجاء لأخذ الدروس ، وكان فى الأسابيع الأولى يحضر فى الميعاد ، ثم أخذ يتأخر ولاحظت عليه الملل ، فسألته :
ـ ألا تحب الموسيقى ..؟
ـ أكثر من أى شىء فى الحياة ..
ـ لماذا لا تحضر فى ميعادك إذن ..؟
ـ إننى أجاهد فى كل مرة ، ولكننى لا أستطيع .. مرة يأخذنى النعاس ومرة أخرى أجد نفسى جالسا فى غرفتى وأحس بشىء ثقيل يحط على صدرى ويمنعنى من الحركة .. فأظل فى مكانى ساعة وأنا أفكر .. ويلذ لى التفكير وأسائل نفسى : ما جدوى كل هذا ..؟ باطل الأباطيل .. موسيقى ..! ولمن أتعلم الموسيقى ..؟ ولماذا ذهبت إلى كل هؤلاء الأطباء ..؟! ولماذا لا أموت وأستريح ..؟
ـ يجب أن يكون لك هدف فى الحياة ..
ـ هدف ..
قال هذا فى استخفاف وقهقهة ، ثم نظر إلىَّ بعينين منطفئتين وقال :
ـ إننى هالك يا سيدى إن لم يكن اليوم فغدا .. وأنا أغالط نفسى وأطاوع زوجتى وأذهب إلى الأطباء ، ولكنى أعرف فى دخيلة نفسى أن لا فائدة ترجى من هذا كله ..
ولأول مرة أعرف أنه متزوج ، ولم يكن يدور فى خلدى ذلك قط ، فهو أشبه بطالب صغير فى مدرسة ثانوية ، فى كل حركاته وسكناته دلائل الطفولة ..
ـ وسألته :
ـ أين تسكن ..؟
ـ فى مصر الجديدة ..
ـ ولهذا تتأخر ..
ـ ليس للمسألة دخل فى هذا ، وإنما أنا مريض .. مريض ..!
فابتسمت فى وجهه وناولته الكمان لأول مرة ، فقد رأيت أن أعفيه من دراسة النوتة قبل أن يسأم وينصرف عن الدرس كلية ..
ومرت شهور ولم يتقدم فى خلالها شيئا ، وكانت أصابعه تسيل عرقا ، مع أننا كنا فى صميم الشتاء ، ويده التى تمسك بالقوس تنتفض دائما ، وكان يلاحظ هذا أكثر منى ، ويظهر على وجهه الألم ..
وكنت أتجاهل ذلك ، وأبذل معه كل جهد مستطاع لأجعله يتقدم ، ويحس فى أعماق نفسه بالراحة ، وبأنه أصبح شيئا وبذلك تعود إليه سكينة نفسه ، ولكن جهدى كله كان يذهب هباء ، فقد كانت يده دائما ترتعش وأصابعه لا تثبت فى موضعها ، وكان يعانى من ذلك غما شديدا . واشتد عليه الألم مرة فوضع الكمان والقوس جانبا ، وجلس يبكى كالأطفال ، فتركته حتى هدأ ، ثم عرضت عليه أن يتعلم العود لأنه أسهل كثيرا ، وبعد شهور قليلة سيجد نفسه عازفا للمقطوعات التى يحبها . ولما الفيته قد استراح إلى كلامى هذا وعاد إليه الأمل من جديد ، قلت له :
ـ وسأوفر عليك مشقة الحضور بإعطائك الدروس فى بيتك ..
وسر لهذا كثيرا ..
***
وذهبت إليه فى بيته ، وفتحت لى الباب سيدة شابة رائعة الجمال ، وكأنها كانت تتوقع قدومى ، فما رأتنى حتى دعتنى إلى الدخول وهى تبتسم فى رقة بالغة ، ووجدت تلميذى جالسا فى الصالة ، فنهض واستقبلنى مرحبا وقدمنى للسيدة التى فتحت لى الباب ، وهى زوجته ، ومدت لى يدها الرخصة ..
وجلسنا نحن الثلاثة حول مائدة صغيرة نتحدث ، واسترسلت معها فى الحديث حتى نسيت الدرس ، ونسيت أنها أول زيارة لى فى بيتها ، والحق أن الهدوء الذى وجدته فى البيت جذبنى إليه ، فلا ضوضاء ، ولا صياح أطفال ، ولا صوت خدم ، وإنما سكون مطلق ، وجمال وبساطة فى الأثاث ، وكانت السيدة " اسبور " صبوحة المحيا ، رقيقة المشاعر ، وكان وجهها ساكنا ، وعليه مسحة حزن ظاهر ، وعيناها نديتين براقتين فى سواد أخاذ ..
وابتدأت الدرس مع زوجها ، وتركتنا فى أثناء الدرس لتعد العشاء ..
وبعد الدرس عزفت لهما أكثر من ساعة على العود ..
وحملتنا الموسيقى على أجنحتها الذهبية إلى رياض البسفور ، وسرت السيدة كثيرا عندما علمت بأننى تعلمت الموسيقى فى استامبول ، وتمنت أن تذهب مع زوجها إلى هناك ، ولعل سحر البسفور يحدث فى نفسه أثرا ..
***
وتقدم رمزى فى دروسه ، وتكررت زياراتى لمنزله حتى أصبحنا صديقين ، ولاحظت أن الرابطة بينه وبين زوجته مقطوعة ، فهو يبغضها بغضا شديدا ، ويحتقرها فى أعماق نفسه ، ويشعر بالراحة والسكون كلما ابتعدت عنه ، وكنت أجاهد لأقرب ما بينهما من مسافة ، ولكن جهودى كلها ذهبت دون جدوى ، فقد كان منطويا على نفسه ، زاهدا فى المرأة ، أو عاجزا عنها ، ولعل ذلك هو علة أعصابه . وكان كلما شعر بعجزه أمامها اشتد كرهه لها ونفوره منها ، وكان شعوره بالنقص وإحساسه المرهف بحاله قد أتلف أعصابه . والواقع أن وجود المرأة معه تحت سقف واحد قد زاده عذابا وألما ، على خلاف ما كان يقدر الطبيب ..
وقد سألت زوجته عن أسرته ، فعلمت أن أمه كانت أجنبية وقد تزوجها أبوه وهو يدرس فى الخارج ثم عاد بها إلى مصر ، وكان هناك نزاع دائم مع أسرته بسببها ، وكانت دائما حزينة عليلة ثائرة ، وفى هذا الجو العاصف وضعت رمزى ، وفى العاشرة من عمره ماتت وتركته لأبيه ، وكان يحبه كثيرا ، فنشأ مدللا ، ثم مات أبوه وخلف له إرثا يغنيه عن الناس ، ولكن رمزى كان يقف على عتبة الحياة وحيدا عليلا لايعرف الكفاح ، فسقط صريع المرض .. وأشار عليه الأطباء بالزواج ، فتزوج من هذه المسكينة التى كانت تعانى كثيرا فى عشرتها معه ، فقد كان يثور لأتفه سبب ويبكى كالأطفال ، ويلعنها ويسبها أمامى ، وهى صامتة صابرة ، وفى عينيها الدمع ..
***
وكنت مرة فى بيته ساعة الغروب ، وسمع جرس الباب يدق ، فلاحظت أن وجهه أصفر ، ومشى إلى الباب وهو يرجف ، ثم رجع دون أن يفتحه ويرى من الطارق ، وأخذ يصيح فى وجه زوجته :
ـ شوفى من .. قلت لك ألف مرة لا أريد لبانا ولا خبازا يجىء إلى هنا .. لا أريد أحدا يعكر علىَّ سكونى ..
ثم مضى إلى غرفته ، وهو يمشى فى حذر ووجل ، وأغلق عليه الباب حتى لا يحس بشىء مما يجرى فى البيت ..
***
وفى الدرس التالى وجدته مريضا ، وعلمت من زوجته أنه تعارك معها البارحة ، وترك البيت ثائرا محتدا ، ثم رجع ونام فى الفراش ، ومن وقتها لم يتحرك .. وكانت صفرة وجهه وبروز عظام خديه قد أثارت الشك فى نفسى ، فحدثت زوجته عن ضرورة استدعاء الطبيب ، وجاء الطبيب ووجد عنده التهابا فى الرئة ، ونقلناه بعد يومين إلى المستشفى ..
وكان له بعض الأقرباء يزورونه ، ولاحظ الطبيب أن وجودهم يثير أعصابه ، فمنع الزيارات عنه ، وبقيت أنا وزوجته نساعد على تمريضه ..
واشتد عليه المرض ، فحجزنا سريرا لزوجته بجواره ، وكان يستنشق الأكسجين فى الليل ، وكنت أعاون الممرضه فى مسك الجهاز المملوء بالأكسجين ، وأظل ساهرا فى المستشفى إلى ما يقرب من منتصف الليل ، واشتد عطفى على زوجته فى خلال ذلك ، فقد كانت تسهر فى كثير من الليالى إلى الصباح وهى واقفة بجوار سريره ، ومع ذلك لاتشكو ولا تتبرم ..
وكنت أرى هذه المسكينة تروح وتجىء أمامى وشبابها يذبل .. وعودها آخذ فى الجفاف .. فيعصر قلبى الأسى .. لقد عاشت السنين التى قضتها معه فى برودة شديدة ، فما أحست بالدفء .. ولا شعرت بإعصار الرجولة يلفها .. ولا قوة الشباب الدافق تسرى فى كيانها ، فقد عاشت هذه السنين وكأنها ما عاشت ، ولقد أدركها اليأس وبرح بها الحزن القاتل ، وظهر على وجهها الذبول ، وروحها الانكسار ..
وكثيرا ما التقت عيناى بعينيها الصافيتين الذابلتين .. ولمست يدى يدها .. ولمس جسمى الفوار بالدماء جسمها الذى يود لو يشتعل .. وكثيرا ماقرأت فى عينيها النداء .. ولكن إذا نظرت إلى زوجها الذى أصبح صديقى .. أحول وجهى وأغمض عينى ..
***
كانت ليلة من ليالى الصيف الحارة ، وكنت جالسا قرب النافذة المطلة على حديقة المستشفى ، وبصرى يسبح فى الظلام ، ثم يرتد إلى الحديقة التى لفها الظلام فى برودته ، فبدت جهمة موحشة .. كان السكون يشمل كل شىء ، وكانت الممرضة واقفة على سرير رمزى ، وبجواره زوجته ، وقرب أنفه جهاز الأكسجين ، وعلى رأسه الثلج ..
وكان وجهه محتنقا ، وعيناه حمراوين ، وكان يهذى ولا يعرف من حوله ، ويغلق عينيه ويذهب فى غيبوبة بعيدة ، ثم يفتحهما ويحرك ذراعه المعروقة حتى يمسك بكيس الثلج الموضوع على رأسه ويرمى به بعيدا ، وتنحنى الممرضة وتعيد الكيس إلى مكانه ، وهو يرقب هذا ببصر زائغ ..
فى الساعة العاشرة سلمت على زوجة صاحبى ومشيت إلى الخارج .. وقابلتنى الممرضة فى الممشى .. ولما علمت بأنى ذاهب اقتربت منى وهمست :
ـ ابق هذه الليلة .. فالسيدة وحدها .. وقد يحدث شىء ..
وسرت فى جسمى رعدة عندما سمعت هذه الكلمات وبقيت لحظة مسمرا فى مكانى ، ومرت فى ذهنى صور سريعة عن النعش والحانوتى والمقبرة ، ثم اتجهت بخطى بطيئة إلى غرفة المريض ، ولما رأتنى زوجته راجعا نظرت إلىَّ بوجه ملتاع ، وأدركت كل شىء ..
وجلست على الكرسى ، وجلست أمامى على السرير ، وفى ركن من الغرفة ينام صاحبى هناك ، لقد جمعتنى به الأقدار فى ساعة مظلمة من حياتى ، ولقد عشت من ماله ، وأكلت من طعامه ، وتطورت العشرة إلى صداقة قوية ، وأصبحنا لا نفترق نحن الثلاثة إلا قليلا .. وها نحن هنا كما كنا .. وكما نحب جالسين فى غرفة واحدة تحت سقف واحد ، وقد مضى جزء كبير من الليل وخيم السكون ..
رفعت بصرى إلى زوجته وقلت لها وصوتى يرتجف :
ـ لماذا لا تنامى .. لقد نام رمزى ..؟
فنظرت إلىَّ طويلا ثم قالت فى عذوبة حبيبة :
ـ وأنت .. كيف أنام وأتركك ساهرا ..؟
ـ سأنام بعد قليل فى مكانى ..
ـ أبدا .. سأظل ساهرة إلى أن تنام ..
هززت رأسى أسفا وصمت ..
ومضى جزء كبير من الليل ، وانقطع كل حس فى المستشفى ، وخف وقع أقدام الممرضات فى الطرقات ، وغلبنى النعاس أكثر من مرة ، وأنا جالس فى مكانى ، وغلب زوجة صاحبى كذلك ، ولاحظت هذا فابتسمت وقالت فى همس :
ـ النوم غلاب ..
تحرك المريض ودفع غطاءه ، وأزاح الكيس الثلجى عن رأسه ، فنهضت أنا وزوجته معا ، وأعدنا الكيس والغطاء إلى مكانهما ، وعلى فراش المريض لمست يدى يدها ، وأحسست بها تلتهب ، وضغطت عليها دون وعى منى ..
لقد لمست يدها من قبل مرارا ، ولكننى لم أشعر بها حارة ملتهبة كما أحسست بها فى هذه الليلة ..
تراجعنا عن السرير ، وعاد كل منا إلى مكانه ..
ولكننى وجدت نفسى أرتعش ، فأطرقت برأسى وأغمضت عينى .. ولما رفعت وجهى ، وجدتها تنظر إلىّ وعيناها ناطقة بأبلغ الكلام ..
إنها تنادينى فلماذا لا ألبى النداء ..؟
تحركت دون وعى منى ولمست يدها مرة أخرى ..
وفى مثل الإعصار كانت بين ذراعى ..
واستفقنا على صوت ..
كان المريض يهذى ، وكان فاتحا عينيه ، ولكن هل بصر بنا ، وهل عرف ما حدث ، أم لايزال فى غيبوبة ..؟
***
انسحبت من الغرفة ، وخرجت مسرعا فى الظلام ..
وشفى رمزى ، ولما اشتعلت الثورة العربية فى فلسطين ، كان أول من عبر الحدود إلى هناك ، وأول من قتل من الثوار ..
وقد تعلمت من هذا الدرس الأول أشياء كثيرة عن المرأة والحياة ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأربعاء، ٣١ أكتوبر ٢٠٠٧